حكاية ثورة
عرضنا فى المقال الأول جانب من الثمانية عشر يوما الأولى من عمر ثورة 25 يناير، فبعد إعلان خطاب التنحى والفرحة العارمة التى جابت مصر كلها وقتها، ذهبت صباح اليوم التالى الى الميدان قبل سفرى للسويس، شاهدت الشباب يستكمل نظافة الميدان قبل تركه، أملا أننا لن نعود الية مرة أخرى، فقد انتصرت الثورة فى عيون الكثيرين برحيل مبارك، وماهو قادم سيحقق آمالهم.
لكن كان هناك طرف خفى يثير دائما المشاكل، ويصنع حالة من الصدام والتجاوزات، كما حدث من قبل فى حرق مبنى الحزب الوطنى والاعتداء على أقسام الشرطة، واقتحام السجون، وواقعة الجمل بميدان التحرير، وخروج الثورة عن سلميتها.
وبدأ فصل جديد من زعزعة الاستقرار، ومحاولة اسقاط الدولة، ووقوعها فى الفوضى، بل ومحاولة الصدام مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فقد بدأ يتعرض لضغوط، وبداية مظاهرات فئوية جعلت المسرح مفتوح دائما للاضطرابات، والعودة مرة أخرى للميدان، وتعددت أسماء ذلك الجمع الذين خرجوا بها، مرة جمعة استرداد الثورة، وجمعه المطلب الواحد، وتسيد الإخوان والسلفيين للمشهد، واستغلال المنابر، ووسائل الإعلام، وخصوصا قناة الجزيرة فى تأجيج المشاعر، ناهيك عن القوى المأجورة التى تحاول إفساد المشهد عبر أذرعها فى الداخل.
فقد كانت جماعة الإخوان بعد إزاحة مبارك تتصدر المشهد، لأنها الفصيل الوحيد المنظم وقتها، ونخبة مضطربة لا تعى الظرف الصعب الذى تعيشه مصر، ومعهم أحزاب وقوى سياسية مندفعة، وكأنهم اتفقوا جميعا ألا يتفقوا، خلافات واعتصامات متتالية، وانقسم المصريون، وغابت روح 18 يوم الأولى، وطغت الانتهازية، فالغالبية يبحث عن المكاسب، وتصدر المشهد، والوطن مستهدف من الداخل والخارج، والمجلس العسكرى رافض فكرة الصدام مع الشعب، رغم تأكيده أنه ليس بديلا للشرعية، وأنه باق محافظا على تعهداته بإجراء الانتخابات البرلمانية، وصولا لتسليم السلطة إلى رئيس يرتضاه الشعب، ومن قبل قدم اللواء الفنجرى التحية لأرواح شهداء الثورة وشبابها والشعب المصرى، وأن المجلس يعلم ما يحاك ضد الوطن، وسيعمل على حمايته مهما كانت التضحيات.
فقد حاول المجلس العسكرى تسليم السلطة إلى رئيس المحكمة الدستورية، ورفض وقتها المستشار فاروق سلطان، وسار المجلس فى المسار الطبيعى بتشكيل لجنة لوضع دستور للبلاد، وإصدار إعلان دستورى للمرحلة الانتقالية وإسقاط دستور 1971.
لكن ذلك لم يعجب الإخوان، فقد حاولوا عرقلة ذلك المسار، وأصدر الإعلان الدستورى، ووافق علية الشعب، وبقى تشكيل اللجنة التى تقوم بإعداد الدستور، واعترضوا على وثيقة الدكتور على السلمى، التى تضع الضمانات لتشكيل اللجنة، وأقاموا الدنيا ضدها، رغبة منهم فى السيطرة على اللجنة ليكون الدستور وفق مخطتهم، وهذا ما رفضة المجلس العسكرى، وتحمل كثيرا من الإهانات والضغوط من الإخوان والسلفيين والائتلافات الثورية التى كثر عددها، وطالبوا بترك السلطة وتشكيل مجلس رئاسى مدنى، وإلغاء قانون الطوارئ، وعدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وتحول الميدان إلى كتلة من اللهب ووقوع مزيد من الضحايا والمصابين، وانتشار الفوضى العارمة والضغط على المجلس العسكرى ليترك السلطة.
واختلفت أسماء الجمع التى تمت الدعوة إليها، وكأنه أصبح لزاما أن يتم مليونية كل جمعة أسبوعيا، كل تلك الاضطرابات كانت سببا فى تأزم الوضع الأمنى والاقتصادى داخل البلاد.
فى نفس الوقت كان شباب الثورة يرى ان الفترة الانتقالية التى أعلنها المجلس العسكرى، وهى ستة أشهر غير كافية لتكوين أحزابهم ودمج كياناتهم السياسية فى المجتمع، واضطر إلى الاستجابة حتى يضمن عدم سيطرة فصيل واحد على المشهد، ونحن كنا فى حزب العدل ثانى حزب مدنى يتم إشهاره بعد الثورة وبعد حزب الحرية والعدالة.
وما زلت أتذكر فى أحداث محمد محمود الثانية، عندما حاولوا اقتحام وزارة الداخلية، وتحول شارع محمد محمود إلى ساحة من الموجهات، وقتها ذهبنا إلى مبنى الوزارة لحمايته ضد أى تجاوزات ووقفنا مع بعض الأصدقاء كدروع بشرية لحمايتها من الاقتحام ومحاولة تهدئة المتظاهرين، وأن عليهم الرجوع إلى ميدان التحرير، والتعبير بشكل سلمى عن طلباتهم بعيد عن الفوضى والعنف، ومع ضغط المتظاهرين كان يتم استخدام القنابل المسيلة للدموع، فيندفع الجموع فى فوضى شبة عارمة إلى الخارج، ويتساقط على الأرض الكثيرون ويتم إصابتهم من عملية الدهس، ويدخل البعض ليدعى أن أصابهم جنود الشرطة ليؤجج مشاعر من لم ير فى الميدان واستمرت عملية الكر والفر بدون فهم منهم لما يحدث، وأتذكر يومها طلب منا حماية المتظاهرين وتهدئتهم حتى يتم وضع حواجز خرسانية تحول بينهم وبين مبنى الوزارة لمنع الاحتكاك وحماية للطرفين، حتى تعبت وأثناء عودتى إلى داخل الميدان صادفنى بعض السلفيين وانهالوا عليّ ضربا وبكل قسوة بدعوى أننى من رجال الأمن المتنكرين فى زى مدنى، وتركت عند جراج البستان حتى وصل من تعرف على ونقلنى إلى الخيمة الطبية لعمل الإسعافات، رغم أننى كنت فاقد الوعى تماما، وكان هذا من أسوأ أيام حياتى داخل الميدان.
فلم يفهم أحد التطورات ويتخلى عن ثوريته بعد تخلى مبارك عن السلطة، وأن القادم هو وقت ممارسة العمل السياسى وحدوث التوافق للخروج من النفق المظلم للبلاد إلى تحقيق شعارها “عيش حرية كرامة إنسانية”.
أتذكر وقت أن دعا مسؤول كبير إلى اجتماع بعد تنحى مبارك مباشرة، رأيت مئات الائتلافات، الجميع تخيل أن الثورة كتبت باسمه، وأنه واجب أن يتحدث باسمها، فكانت الانتهازية والانقسام والخلاف، قلت وقتها إنها بداية الانشقاق وعدم الوصول إلى رؤية موحدة، طالما ظهر مئات القادة، وأصبح الحديث باسم الشعب أمرا سهلا، الكل يردد “الشعب يريد”، وكأنه حصل على تفويض من ملايين المصريين، فكانت الفوضى وتوقف عجلة الإنتاج، وندم البعض على مشاركته فى الثورة، وعاد الكثيرون إلى الخلف ممن أطلقنا عليهم حزب الكنبة، وظهر مصطلح جديد أطلقنا عليه الدولة العميقة، وفلول عهد مبارك.
وهذا ما نكمله المرة القادمة.