الكلمة حياة
قال لي صديقي لماذا لم تعد تكتب؟
قلت: لا أحد يقرأ، الكثير منشغل ببرامج التواصل الاجتماعي، والفضائيات سرقت أوقاتهم، ليس فينا هيكل جديد، ولا محفوظ والحكيم، غاب السحار، وتدهورت الدراما والسينما، غيب الموت أنيس منصور، راح صنايعية الكلمات وبقى المتاجرون، وتنحى أصحاب المبادئ.
من قال ذلك: فأنا أحضر كثيرا من الندوات والصالونات الثقافية، والمعارض وقريبا الحفل الكبير، معرض القاهرة الدولي للكتاب، ستتفاءل بجموع حاشدة، تملأ أركانه، أتت من كل ربوع الوطن، تبحث في أرفف عن كلمات تغذى روحها، وتنير طريقها.
يا صديقي: في تلك الكتب حياة، قصص، وعبر، تجارب أشخاص وشعوب، فيها شعر ونثر، سياسة واقتصاد، فيها فلك وعلوم، بها الحياة كافة.
فيها كلمات تبهج، ترقص، تغني، ترسم طريق وتحيي قلوبا، تصنع مجدا، ومستقبلا.
فيها كلمات كالرصاص، كالبركان يقذف حمما، وسيوف وخناجر تقتل أملا، بها موت وحسرة وبكاء، بها ثورة وحرب.
فماذا صنعت كلماتي، أدخلتني في حلمي عندما كنت صغيرا، أبحث عن كتب أنيس منصور، سافرت معه في 200 يوم حول العالم، وجلست مع هيكل في كل اجتماعاته مع رؤساء دول وحكومات وزعماء، رأيته وهو يهمس في أذن عبد الناصر، وقفت خلف نجيب محفوظ وهو يكتب قصر الشوق، صادقت كل أبطاله، شردت مع د مصطفى محمود، وانتبهت مع د إبراهيم الفقي، عشت حلم قصة عثمان أحمد عثمان، بكيت مع الرئيس محمد نجيب في كنت رئيسا، وقفت مع الواد حراجي القط ونحن نبنى السد العالي، رأيت العالم من لحظة ميلاده حتى اليوم، عشت مع أبطال الروايات والقصص، تجولت مع دكتور زويل في رحلاته، كنت ستيف جوبز واينشتين فى نفس الوقت، كنت الفارس والجلاد، كنت القائد والرعية، أمسكت بالسيف والبندقية، كنت كل الأشخاص لكنني لم أكذب، عشت الخيال ولم آتِ إلى الحقيقة.
أتدري أن أمي فرحت عندما رأت صورتي في الجريدة، وقرأت اسمي مئات المرات غير مصدقة، قطعت الورقة التي طالما لم تعرها اهتماما، حفظتها بين طيات ملابسها، تخرجها بين الحين والحين لزميلاتها وأقاربها هذا ولدي اسمه هنا في تلك الصحيفة وهذه صورته.
لم تدرِ ماذا كتبت، وخافت وبكت عندما قالوا لها إنه يهاجم الحكومة، إنه يشتكي سوء المعيشة، يتكلم بلسان حال الفلاح ويقول عنه الشهيد الحي، وبعفويتها قالت: طيب هو احنا قد الحكومة وبكت.
قالت لي: يا بنىي كف عن ما تقوله، فليس لنا سند في الدنيا غيرك، أخفت صورتي وطمست كلماتي، لم تعد تريها لأحد.
ربت صديقي على كتفي وهمس بصوت خفيف:
اكتب فالكتابة نور، اكتب وستجد من يقرأ ويفهم، اكتب فالكلمات تعيش كنقوش فرعونية، فالكلمة رسالة ورسول، فهناك كلمات تُبكي، وكلمات تُفرح، وكلمات تلهب الحماسة وتفجر الوطنية، وابعد عن كلمات تحبط وتقتل النفس البشرية.
اكتب وسيقرأ من يفهم في الكلمات معنى الحرية، فثورتنا في 25 يناير كانت كلمة، وصنعنا منها جبالا من الحكايات تروى لتعلم القادم معنى الوطنية، وهتفنا عيش حرية كرامة إنسانية.
فهناك كلمات خبيثة كشجرة خبيثة توقعك في وحل الأفكار الهدامة، وتجزى بعذاب رب البرية، وكلمة طيبة كشجرة طيبة تكسب بها رضى الله وتوصلك لجنة الرضوان.
وقال رسول الله صلى علية وسلم: وهل يكب الناس فى النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.
فاكتب فالكلمات نور وحياة يعيش الطيب منها وتطول أفرعه وتمتد إلى عنان السماء، ولا تقل إلا خيرًا، وابعد عن الخبيث من الكلام، ولا تكن مثل الشيطان يوقع فرائسه بتجميل الباطل، فتخسر آخرتك.
اكتب فالكلمات خلقت لتعيش لا تعرف معنى الموت.