عيالي ملحقوش يفرحوا بالبيت الجديد.. فلسطيني يروي ساعات الألم تحت حصار الاحتلال
120 يومًا تحت خط نيران جيش الاحتلال على قطاع غزة.. بطولات فردية رصدناها خلال حديثنا مع عشرات المواطنين الفلسطينيين والأطباء الذين جسدوا ملحمة وطنية في سبيل بناء حلم الوطن الفلسطيني.
رغم دمائهم التي تسيل وفقدانهم فلذات الأكباد، إلا أنّ ابتسامتهم ما زالت متواصلة، ليكون سلاحًا أقوى من الرد العسكري في وجه الاحتلال، يتحدثون بود ومحبة صادقة وترحيبًا حارًا لمصر وأهلها قيادة وشعبًا.
شخص واحد أثار فضولي الصحفي خلال حديثنا معه لمعرفة ماذا يحمل خلف صوته المكتوم بمشاعر الألم والحزن؟! بعد دقائق معدودة خلال حديثنا الهاتفي معه، قال إنّه طلعت برهوم، مدير العلاقات العامة بالمستشفى الميداني الإندونيسي.
ثواني قليلة للتفكير قد تكون بمثابة معرفة قصة هذا الرجل التي أردت معرفتها، وهو ما دفعني لسؤاله من هم؟ وكنت أتوقع الإجابة، ليجيبني بأنهم جميع أفراد أسرته وهي زوجته وأبنائه الثلاثة وابنته الوحيدة، ممن استشهدوا خلال قصف إسرائيلي، ليكون كغيره ممن مسحت أسماء عائلاتهم من السجلات.
حديث من القلب يبكي العين
لم يتمالك طلعت برهوم، نفسه ودخل في نوبة بكاء، خلال حديثه عن رفيقة دربه وأبنائه الـ 3 وابنته الوحيد، ليتحدث عن استشهادهم خلال الأول من شهر ديسمبر الماضي، بينما كان يؤدي هو عمله في ذلك الوقت رئيسا لقسم العلاقات العامة داخل مستشفى الشهيد محمد يوسف النجار بمدينة رفح الفلسطينية، ليبلغه زملائه بأن قصفا استهدف المنطقة التي يسكن بها والد زوجته، والتي انتقلوا للعيش معه مع بداية العدوان.
الرجل الأربعيني، يواصل حديثه: خلال البحث عن أسرته بينما كانت أفكار كثيرة تتداخل وترهق فكره وعقله، وبعد بحث وجد شقيق زوجته وأطفاله بين المصابين، لكنه لم يجد ضآلته، ليخبره المسعفون بأن هناك جرحى آخرون تم نقلهم إلى مستشفى آخر، ليهرول إليها، وما إن وطأت قدمه مدخل المستشفى، حتى كانت الصدمة، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، بعدما وجد أمامه 5 جثث في أكفانها البيضاء ومكتوب عليها أسماء زوجته وأبنائه الـ 4.
يصف طلعت برهوم، المشهد بأنه الأصعب في حياته كلها، ولم يفارقه منذ أن شاهده أول مرة، كما أنه لا يبارح مخيلته، لكن المواقف والأحاديث مع أطفاله ليان التي تبلغ 14، وعبد الرحمن 12؛ ومحمد 10 سنوات، وآخرهم أحمد وزوجته، هي التي تزاحم مشهد استشهادهم ودفنهم ووداعهم الأخير ليتركوه وحيدا، مع عين لا تجف حزنا على فقدهم.
حلم الأسرة 4 جدران لاحتوائهم
حلمهم السكن في بيت جديد.. تلك هي أمنية أسرته التي استشهدت، وبالفعل حققها لهم بعدما ادخر على مدار سنوات عديدة ثمنه لينتقلوا إليه جميعا منذ 9 أشهر فقط، قبل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لكن سرعان ما دمره القصف الغاشم للاحتلال كما حصد أرواحهم بضربة صاروخية واحدة.
كان رب الأسرة يخطط مع زوجته التي يصفها بـ السند؛ بقضاء إجازة العام الميلادي الجديد بزيارة أسرتيهما ورحلات سريعة إلى أشهر المطاعم والأماكن الترفيهية في قطاع غزة، لكن الاحتلال لم يحقق لأسرته أحلامها ولا إلى سكان القطاع بأكمله.
يستكمل الأب حديثه، وقال إن أبنائه جميعهم كانوا من حفظة القرآن الكريم، امتازوا بالتفوق الدراسي، وكانوا متيمين بحب وتشجيع نادي الزمالك المصري بعدما ورثوا ذلك منه، مشيرا إلى أنهم كان مطلبهم الوحيد منه أثناء زيارته للقاهرة هو شراء الملابس الخاصة بلاعبي القلعة البيضاء، وكذلك الأحذية الرياضية.
ويتابع حديثه المكتوم بالدموع قائلًا: ولادي كانوا مدمنين ممارسة كرة القدم.. وكان طلبهم الوحيد لما أسافر مصر.. أشتري ملابس وأحذية رياضية، أنا زملكاوي وكلهم كانوا بيشجعوا الزمالك زي.. كانوا متيمين بحب ومتابعة الرياضة والمباريات المصرية.. وليفربول وبرشلونة ومحمد صلاح.
يتوقف الأب قليلًا ويعود بصوت حزين ليكشف لنا عن إلحاح أطفاله له بالعودة للمنزل، والذي لم يعرف طريقه منذ يوم السابع من أكتوبر إلا من خلال زيارات خاطفة لساعات تعد على أصابع اليد الواحدة، مشيرا إلى أن آخر اتصال بينه وبينهم طلبوا منه العودة وحاولوا إقناعه بأنه ليس طبيبا للمكوث داخل المستشفى؛ ليرد عليهم بقوله: إن الجميع من كوادر طبية ومسعفين وممرضين وإداريين يعملون كالبنيان الواحد يشد بعضهم بعضا.
الصبر على فراق أسرته
ويختتم طلعت برهوم حديثه معنا بأن ما يزيده من الصبر على فراق أسرته هو الرضا بقضاء الله وقدره، والعمل في المجال الطبي ليل نهار لمحاولة التخفيف عن المصابين والجرحى وأسرهم قدر استطاعته، مؤكدا أن ما حدث في غزة من تدمير وقصف واستهداف للمدنيين أعادتها بالزمن للوراء 100 عام، فلا ماء شرب نظيف ولا كهرباء ولا أدوية داخل المستشفيات ولا طعام ولا مأوى يقيهم صقيع الشتاء القارص، وأن ما يحدث هناك لا يمكن وصفه أو تخيله.