ذكريات ليلة التنحي
مازلت أتذكر ليلة التنحي بكل تفاصيلها، كنت موجود بالميدان مع بعض الأصدقاء، والميدان مكتظ بالمتظاهرين، يهتفون ارحل ارحل، وكان خطاب مبارك الثالث والأخير منذ بداية الأحداث آخر مسمار في نعش نظامه، لأنه جاء مخيبا للآمال، ومتأخر كعادته، فقد فوض كل سلطاته وصلاحياته لنائبه عمر سليمان، مطالبا بتعديل الدستور، وهو يظن أن تلك القرارات تعمل على تهدئة الشارع الملتهب، والميادين المحتشدة بالمتظاهرين، وما كان منهم إلا أن رفضوا فحوى الخطاب، ورفعت الأحذية تأكيدا على هذا الرفض، فمبارك يجب أن يرحل هو وكل نظامه ويتم تقديمهم للمحاكمة.
وأصدر بعدها المجلس العسكري رسالة مقتضبة يؤكد فيها تأييده لمطالب الشعب، وحماية ثورته، وحرصه على أمن وسلامة البلاد، وأنه في انعقاد دائم، والملفت أنه انعقد بدون مبارك وكانت رسالة مبطنة بأن نهايته قد حسمت.
الميدان مشتعل لا يهدأ، والأصوات تتعالى مطالبة بالزحف إلى قصر الإتحادية ومحاصرته، وبدأت أعداد قليلة تتجه إلى القصر، ونحن نتناقش داخل ميدان التحرير، ونطرح الأسئلة ونرسم السيناريوهات للمواجهة المحتملة مع قوات الحرس الجمهوري، الذين استبقوا الزحف وتم تأمين القصر بالأسلاك الشائكة، ووجود بعض المدرعات، وغلق الشوارع المؤدية إليه خوفا من الصدام مع الشعب، وتسريب أخبار أن مبارك غادر إلى شرم الشيخ.
وخرج زبانية النظام يؤكدون أن مبارك جاد في عمل الإصلاحات الدستورية، ولن يترشح مرة أخرى، ويجب علينا العودة إلى منازلنا لتحقيق خارطة الطريق.
ودعوات أخرى من القوى السياسية المتظاهرة، تطالب بتشكيل مجلس رئاسي، وإلغاء حالة الطوارئ، والإفراج الفوري عن المعتقلين، وحل مجلس الشعب والشوري في ذلك الوقت، وتعديل الدستور، وضرورة الانتقال السلمي للسلطة، وغيرها من المطالب التي تم المطالبة بها طوال فترة التظاهر، وأن خطاب مبارك وتفويض صلاحياته لنائبه ما هي إلا تمثيلية ومراوغة منهما، كما حدث في خطابه العاطفي والذي استطاع أن يجذب لصفه بعض الحشود، الذين طالبوا بضرورة استكمال مدته الرئاسية، خوفا من الفوضى، أو إننا شعب غير صالح للديمقراطية، وسنقع في براثن الدولة الدينية، وكأن الخيار إما أنا أو الفوضى.
ثم كان الخبر الصادم بأن مبارك يمتلك في بنوك سويسرا 70 مليار دولار، ويخرج الراحل هيكل ليؤكد تلك الشائعة التي صدقناها، وزاد لهيب المتظاهرين حماسة يجب أن يحاكم ولا رحيل بدون محاكمة.
بتنا ليلتنا في الميدان، وبدأت تباشير الصباح تظهر في الأفق، ونحن نتمنى أن تكون جمعة الزحف هي الأخيرة، وبدأت الحشود تصل إلى الميدان، لصلاة الجمعة والزحف المحتمل إلى العروبة، ونحن على تواصل مستمر بكل ميادين مصر في كل المحافظات، وبعد صلاة الجمعة كانت الحشود هائلة، وعلمنا أن هناك بعض الحشود من أماكن عدة اتجهت إلى الإتحادية، واكتظ بهم المكان يهتفون يا سليمان يا سليمان غور في داهية أنت كمان (وقد جمعت كل هتافات ثورة 25 يناير وحتى النكات في مدونتي الشخصية)، ثم دارت مفاوضات مع قادة ضباط الحرس بضرورة العودة إلى ميدان التحرير، وأن مبارك غير موجود بالقصر فعاد البعض ومكث آخرون.
وفي نفس الوقت كانت كل ميادين مصر مكتظة تطالبه بالرحيل، وتم الإعلان عن عصيان مدني شامل، وبعض متظاهري الإسكندرية مرابطون أمام قصر رأس التين، والوقت يمر ببطء، وسط حالات الغضب والإحباط عند البعض من عناد مبارك وتمسكه بالسلطة، تصل أنباء عن بيان قريب سيلقيه مبارك، وفي وسط هذا الصخب والقلق والإرهاق يخرج علينا عمر سليمان في بيان مقتضب وصغير.
حالة من الصمت تسود الميدان، بمجرد ظهوره على شاشة التلفزيون، سكون رهيب، ليقول: (أيها المواطنون في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس العسكري، بإدارة شؤون البلاد، والله الموفق والمستعان.)
ولنلتقي بفصل جديد ما بعد تلك اللحظات.