كيف تسهم الحكومة المصرية في تفاقم أزمتها الاقتصادية؟
تمر الشعوب عادة بأزمات اقتصادية مختلفة على مر السنوات، ولكن الأزمة الحقيقية ليست في المشكلة- ولكنها تكمن في طريقة الحكومة ورجال الدولة في التعاطي مع هذه المشكلة، فقد تكون الحلول أكثر سلبا وضررا من المشكله ذاتها.
التباطؤ في اتخاذ قرارات السياسات النقدية والمالية
تواجه مصر أسوأ أزمة اقتصادية منذ عقود، في وقت لا تزال مستويات التضخم مرتفعة وإن كانت تباطأت في يناير من العام الحالي إلى 31.2% على أساس سنوي، مقابل 35.8% في أكتوبر الماضي، ومقابل 33.7% في ديسمبر2023، مع استمرار الضغوط التضخمية في أسعار المأكولات والمشروبات.
وفي بداية العام 2023، سجل الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين معدلًا شهريًا بلغ 4.7% في يناير 2023، مقابل معدلًا بلغ 0.9% في ذات الشهر من العام السابق.
ومع ذلك وفي إطار ترويض التضخم المرتفع، وخلال 7 اجتماعات للجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري في 2023، قررت اللجنة رفع أسعار الفائدة مرتين فقط، فيما أقرت التثبيت خلال 5 اجتماعات - ففي اجتماعات سبتمبر ونوفمبر وديسمبر 2023، تم الإبقاء على سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة عند مستوى 19.25%، 20.25% على الترتيب.
وفي أول اجتماع للبنك المركزي أول فبراير 2024، قرر على استحياء رفع أسعار الفائدة 2% فقط.
فهذه الزيادات الهزيلة في أسعار الفائدة وعلى فترات متباعدة وبأيادي مرتعشة لن تسهم في الحد من تفاقم التضخم، حقيقة الأمر أن مواجهة التضخم الجامح في مصر هي معركة شرسة تتطلب فيها الجرأة والسرعة في اتخاذ القرارات، والوصول إلى مستويات التي يمكن أن توفر قدر من الاستقرار لسعر الصرف ويحد من مدى تقلبه ويرفع من تكلفة الاحتفاظ بالدولار وغيره من العملات الأخرى، ويزيد من الحافز نحو التوجه للجنيه المصري، فلا بد من وضع هدف لمستوى يؤدي إلى تحول الموارد الدولارية الهائمة في السوق السوداء إلى الجهاز المصرفي ويزيد من تحويلات المصريين بالخارج بشكل يزيد من عرض الموارد الدولارية بالجهاز المصرفي.
وأيضا ما زال سعر الفائدة الحقيقي- وهو الفرق بين السعر الإسمي للفائدة ومعدل التضخم سلبيًا، وهذا من شأنه يؤدي إلى تآكل القيم الحقيقية للمدخرات والودائع والأصول، وبالتالي انخفاض القوة الشرائية للمصريين- ولعل ذلك أحد أسباب انخفاض وتيرة التضخم في شهر يناير الماضي، ويجب أن نشير في هذا الصدد إلى ما تقوم به البنوك المحلية من فرض غرامة كسر الشهادات تتراوح بين 70 و85% من إجمالي الأرباح التي يتم صرفها للعميل، ما يحرم المودعين من التمتع بالزيادات الجديدة في ظل التهاب أسعار المعيشة، فليس ذنب المودعين أنهم وثقوا في البنك ووضعوا أموالهم في شهادات سابقة بأسعار أقل.
كدراسة مقارنة- نجد أن البنك المركزي التركي في آخر يناير الماضي، اختتم دورة التشديد النقدي التي تضمنت رفع الفائدة 8 مرات متتالية وأدت إلى زيادة أسعار الفائدة بأكثر من 5 أضعاف منذ يونيو2023- من 8.5% إلى 45%. وها هو يتوقع اقتصاديو أكبر البنوك الاستثمارية مجموعة جولدمان ساكس أن يصل معدل التضخم بنهاية العام إلى 30% من 65%، وأن يتم تخفيض أسعار الفائدة بمقدار 20% بحلول نهاية العام.
ومن ناحيه أخرى- ففي 31 يناير 2024، وافقت الحكومة على تخفيض قدره 15% في الخطة الاستثمارية بالموازنة العامة للسنة المالية 2023-2024 البالغة 587 مليار جنيه- أي وفورات بمقدار 88 مليار جنيه فقط، ولن يتم البدء في مشاريع جديدة في هذه السنة المالية، ولكن سيتم إعطاء الأولوية للمشاريع التي اكتملت بنسبة 70% أو أكثر.
وفورات هزيلة في ظل فجوة تمويلية تقدر بأكثر من 42 مليار دولار، وأيضا ما هو عدد وقيمة المشاريع التي اكتملت بنسبه 70% وقيمة المكون الدولاري لهم؟
Vanity Projects مشاريع ترفيهية
تطالعنا الصحف المصرية في 9 يناير الماضي، أن الحكومة تدرس إقامة منطقة ترفيهية قرب مطار شرم الشيخ الواقعة على البحر الأحمر على إجمالي مساحة 4.18 مليون متر مربع.
بالاضافة إلى البدء في تنفيذ شق النهر الأخضر-وهو أطول سلسلة حدائق في العالم، تتوسّط المدينة بمساحة تزيد عن ألف فدان، بطول أكثر من 10 كم، خلال الربع الثاني من العام الحالي بتكلفة استثمارية لا تقل عن 300 مليار جنيه.
السؤال المطروح: أي إشارات تبعثها الحكومة المصرية إلى المجتمع الاستثماري المحلي والإقليمي والعالمي؟ فهل هذا هو الوقت المناسب لهذه المشاريع في ظل الندرة الحادة للدولار وتباطؤ النشاط الاقتصادي؟ وما هو الجدوي الاقتصادية لهذه المشاريع والعوائد المتوقعة وكان الأجدى أن توجه أي أرصدة دولاريه للإفراج عن البضائع المكدسة في الموانئ المصرية والتي تقدر بأكثر من 14 مليار دولار.
الدولرة
بالإضافة أنها تتنافى مع أحكام القانون بحذر البيع بغير العملة المصرية- فالدولرة تضع الاقتصاد المصري على الفور على درب الدول الفاشلة مثل لبنان. فالحكومة تغض البصر عن مطالبة كثير من الشركات العقارية والسيارات بالسداد بالدولار.
ففي أوائل الشهر الحالي لجأت كبرى شركات الأعلاف العاملة في مصر إلى بيع الذرة وفول الصويا للتجار والموزعين بالدولار، حيث قفزت أسعار الذرة بنحو 48% خلال شهر يناير الماضي إلى 20 ألف جنيه، مقابل 13.5 ألف للطن في ديسمبر 2023- وتمثل الأعلاف نحو 70% من مكوّنات إنتاج العديد من السلع الغذائية كالدواجن والبيض واللحوم والألبان، بالطبع الدولرة أجّجت الأزمة بالآونة الأخيرة وقد تدفع بالدولار إلى مستويات كارثية.
التأثير السيئ والسلبي على أسعار الدولار في السوق السوداء
إن سماح بعض البنوك العاملة في مصر للمستوردين بإيداع العملة الصعبة لفتح اعتمادات مستندية دون سؤالهم عن مصدر العملة مقابل التنازل عن 20% من المبلغ المطلوب، يمثل أحد أهم أسباب اشتعال سعر الدولار مقابل الجنيه في السوق الموازية، فالمستورد لكي يفتح خطاب اعتماد بمبلغ 100$ مليون دولار يشتري 120$ مليون دولار من السوق الموازي بسعر 70$ على سبيل المثال- ويقوم ببيع 20$ مليون دولار للبنك بالسعر الرسمي 30.9- محملا الفرق على المواطن، وبالتالي يزيد من حدة التضخم واشتعال الأسعار ويؤجج من الأزمه الدولارية.
هذا بالإضافة إلى قيام الحكومة نفسها بشراء الدولار من السوق الموازية بتمويلها من طباعه النقد المحلي، الأمر الذي أجج حدة التضخم والفجوة في أسعار الصرف.
* أستاذ الاقتصاد الدولي، معهد نيويورك للعلوم المالية