الإثنين 25 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

«الفرصة الأخيرة 3» | رأس الحكمة.. أما بعد!

السبت 24/فبراير/2024 - 07:31 م

لا صوت يعلو الآن في المشهد الاقتصادي عن صفقة "رأس الحكمة"، وهي في الحقيقة تستحق ذلك تحت أية مقاييس، خاصة وأنه لم يكن أحد يتصور أن تتم صفقة بهذا الحجم تتيح لمصر -حسب الإعلان- الحصول على 35 مليار دولار منها دفعة أولى 15 مليار دولار مقسمة كـ10 مليارات دولار سيولة مباشرة من الخارج بالإضافة إلى تنازل الإمارات عن 5 مليارات دولار من الودائع الموجودة في البنك المركزي المصري، و20 مليار دولار أخرى خلال شهرين من ضمنها تنازل عن 6 مليارات من الودائع.

أعلم أن هناك جزءا آخر من الإعلان عن المشروع تحدث أن إجمالي استثمارات تطوير مدينة رأس الحكمة سيكون 150 مليار دولار، على أن تكون حصة مصر من أرباح المشروع تبلغ 35%، لكن هذا الأمر المستقبلي صعب تداوله وتحليله بموضوعية حاليا في ظل شح أي تفاصيل تمكننا من بناء تصور مستقبلي منتظم، وعليه فصافي التدفق الدولاري -24 مليار- التي سوف يتم ضخها في النظام المصرفي هو الأجدر بالتحليل حاليا وهو ما تحدثت عنه في مقالمصر والفرصة الأخيرة والمنشور بداية فبراير الجاري.

فرضت وقتها -جدلا حتى أكون صادقا- حصول مصر على 26 مليار دولار من حصيلة الاتفاق مع صندوق النقد ومشروع رأس الحكمة، وهو رقم مقارب لمجمل ما تم إعلانه، وتحدثت وقتها أن الإشكالية تكمن في حجم المبالغ الدولارية واجبة السداد خلال 2024 والمتمثلة في قرابة 24 مليار لسداد أقساط الديون (بخلاف ما سوف يتم تمديده منها) و7 مليارات لمتأخرات شركات البترول الأجنبية، و6 مليارات لتحويل بعض أرباح الشركات الأجنبية العاملة في السوق، و14 مليار للتعامل مع بعض الـ backlog "البضائع المحجوزة.

أكدت في تفاصيل المقال السابق أنه لا بد من إدارة الموقف بشكل دقيق في ظل عدم توازن التدفقات الدولارية المتوقعة مع المطلوب سداده، خاصة مع التمسك باستمرار نهج التوسع المالي الحالي، وطالبت بضرورة الانتباه إلى الآثار المجتمعية الناتجة عن تفحل التضخم، وهذا لا يعني إفساد الفرحة بالصفقة الأخيرة، لكن اعتبارها الفرصة الأخيرة للإنقاذ.

فبعيدا عن الأجواء التي تتصدر المشهد، وتفاصيل الصفقة الممتازة الحقيقة لصالح وضع الاقتصاد المصري، فإن هناك سؤالا جوهريا لا بد من الانتباه إليه وهو "ماذا بعد؟"، أو بصياغة أخرى ما هي آليات التعامل مع الظرف بالشكل الذي يحقق أكبر استفادة ممكنة ويحجم تكراره في المستقبل القريب.

وهنا أشير لأهم جملة قيلت في تقديري خلال مؤتمر إعلان الصفقة على لسان رئيس مجلس الوزراء د. مصطفى مدبولي، وهي أن هناك توجها لـ"تصحيح المسار"، وبخاصة أن استمرار المسار التوسعي الحالي رغم آثار الصفقة سوف يقلل الاستفادة منها ويعرض الاقتصاد لظرف مثيل خلال السنوات القليلة المقبلة لكن وقتها مع فرص حلول أقل.

فسعر الصرف وهو شغل الدولة الشاغل (عن غير حق في تقديري) يواجه تشوهات شديدة، منها ما ذكرناه من وجود متاخرات بضائع في الموانئ ومدفوعات شركات البترول المتأخرة والأرباح المحتجزة للمستثمرين، وعليه فلا بد من "تصفير" كل ذلك مرحليا بالطبع، حتى نكون على الإطار الصحيح، فلا يمكن أن نعلن انتصارات زائفة خلال متابعة التطبيقات التي تتناول سعر الصرف ويحتفي الإعلام بانخفاض السوق الموازي دون أن يتم مواجهة تلك التشوهات بشكل حقيقي.

فأي تداول للعملة لا يحدد سعر الصرف العادل دون النظر للمتأخرات هو "غير صادق"، لأن تلك المتأخرات هي ما تفرز ما يعرف بالـ clearing price أو سعر التنفيذ الفعلي، كما أنها أشبه بالمياه المحتجزة خلف سد، يبدو سعر الصرف دونه كالنهر الذي انحسرت فيه المياه لكن الحقيقة أن السد يمنع التدفق الكامل للمياه، وعليه فبداية التعاطي مع سعر الصرف هي القضاء على التشوهات وأي احتفالات دون ذلك هي محض أكروبات.

لذلك فالنجاح الحقيقي يأتي عند توقف التدخل الخشن لتضييق الطلب على العملة، وسداد فاتورة الإنفاق المعلومة سلفا حتى آخر العام والتي تقدر بحوالي 70 مليار دولار للاستيراد و20 مليار لخدمة الدين (رقم تقديري للمتبقي)، بالطبع من خلال مصادر الدخل الطبيعية للعملة الأجنبية بجانب موارد الصفقة الأخيرة وما يتبقى من فجوة تمويلية يجب العمل عليها من خلال اتفاق صندوق النقد المنتظر، وهو ما ينقذ السوق من عثرته الحالية خاصة في حالة تغطية طلب الاستيراد للعملة، وإتباع قواعد العرض والطلب.

فعن طريق الاستهداف السليم سيتحقق استقرار سعر الصرف وتنحسر السوق السوداء، فعليا وليس صوريا. ووقتها سنشهد انتظام تحويلات العاملين في الخارج التي يلزمها بعض الوقت للانتظام، وأيضا تهيئة السوق لاستقبال تدفقات أجنبية في آخر العام بعد انتهاء دورة التشديد المتبعة من البنك الفيدرالي الأمريكي. اما ادارة الموقف بخلاف ذلك فسيعطي اشارات سيئة للغاية.

فإشكالية مصر الأزلية في تقديري هي اعتبار سعر الصرف بمثابة الـmonetary anchor أو المرساة النقدية الأهم بل والأكثر من ذلك، أن أصبح سعر الصرف هو المقياس الرئيسي والحافز للبنك المركزي والحكومة، ووصل الأمر إلى أن النظام بأكمله موجه للتحكم في سعر الصرف، وهو أمر كارثي بالنسبة لبلد يعاني من عجز مزمن في الحساب الجاري ولا يوجد لديه مصدر رئيسي للعملة الأجنبية. وعليه، فإن استهداف التضخم ولو تعارض مع توجه الدولة التوسعي هو الوسيلة الوحيدة لإشعار المواطن بأي تأثير لهذة الصفقة وإلا صارت ضجيجا بلا طحن.

وفي هذا الظرف تحديدا تجب فضيلة "تصحيح المسار" التي تحدث عنها رئيس الحكومة، فوقتها ستكون الدولة أمام خيارين أولهما إكمال المسار المتبع دون تعديل، وحينها سوف نتعرض لنفس الأزمة لا محالة، والآخر هو إدارة اقتصاد بشكل حقيقي يهتم بالجانب التشغيلي ويحترم آليات السوق، ويحارب التضخم لحماية الطبقات محدودة الدخل.

وحديثي هنا لا يجب أن يحرم أحدا من الفرحة بما تم، لكن يستهدف أن يتم ذلك دون مغالاة لأنه لا تزال هناك العديد من الأفيال البيضاء - تكلفة صيانتها عالية لكن لا مناص من إصلاحها- وأولها التحكم في السيولة النقدية من العملة المحلية وكبت حالة التغول المالي "الهيمنة المالية على السياسة النقدية" التي يرجع إليها جزء كبير من العثرة الحالية للاقتصاد.

تابع مواقعنا