أنسام النجار تكتب: ربما يحيى الإنسان بالوهم "قصة قصيرة"
كانت هي سيدة في آخر الخمسينات من عمرها، قريبة لأسرتي “كما يقولون من بعيد” عرفت أنها قد تزوجت في بداية حياتها، وأن زواجها لم يستمر، وأن أهل زوجها أخذوا ملابسها وأهانوها بمنتهى القسوة، وتم الطلاق بعد فترة قصيرة.
لقد سمعت حكايات كثيرة عن سوء معاملة هذا الزوج لها، وكيف كانت تقابل ذلك بلا رد فعل، ورغم كل السلبية التي قابلت بها الإهانة المتكررة، لم يفلح ذلك في جعل الزواج يستمر، ولم تنجب منه أي أطفال.
لم أدرك وقتها إن كان ذلك من حسن حظها أم أنه السبب الحقيقي الذي أنهى هذا الزواج البائس سريعا، عرفت أيضا أنها بعد ذلك بسنوات عدة تزوجت رجل من أصحاب الحرف، رغم أنها كانت موظفة كبيرة في الضرائب، وأن الجميع اعترضوا على تلك الزيجة التي بدت غير مناسبة بين سيدة من أسرة متوسطة ومتعلمة ولديها وظيفة كبيرة ورجل حرفي غير متعلم تقريبا.
ما الذي يدفع أي إنسان لذلك!. سمعت أنها التي كانت تنفق على المنزل، وأنها تكفلت بكل تجهيزات الزواج، عندما قابلتها لم تكن من النوع المقبل على الحياة، أستطيع أن أفهم ذلك من صوت الضحكة التي تصدر عن النساء السعيدات، كانت صامتة أغلب الوقت، لا تجادل ولا تحاول أن تبدي أي رأي.
تنظر لمن حولها نظرات تواصل ليس فيها أي رغبة مميزة، هي لم تنجب من هذا الزوج، وعندما مرضت مرضا شديدا تدخل أخوتها لتطليقها من زوجها، لقد سمعتهم مرة يعيدون على مسامعها كلامه عن موتها، وأنه “سيقوم بعمل عمرة أو حج لها”، أضافت أختها "هيعملك عمرة بفلوسك".
تم حجزها بالمستشفى، ورغم أن علاقتي بها لم تكن قوية بالقدر الكافي، لكن وجودي معها فترات ممتدة في تجمعات العائلة جعلني استشعر واجب زيارتها، لا أدري لماذا أخشى دوما رحيل الأشخاص، وأن الأمر غير متعلق أبدا بدرجة قربي منهم، أخشى إنطفاء الحياة في كل من مروا بحياتي.
عندما وصلت العناية المركزة رفض الطبيب تماما أن أدخل لها، لأنها في النزع الأخير ربما، وكان هذا مدخلي لإقناعه بضرورة أن أراها لآخر مرة، لقد ألححت في طلبي هذا، ووافق فى النهاية.
عندما دخلت الغرفة انقبض صدري، الموت حولي في كل مكان داخل هذه الغرفة، كأن قابض الأرواح يقف في أحد أركان الغرفة ينتظر الفرصة ليسرق روحا في غفلة المحبين.
كانت راقدة في فراش أبيض شاحبة الوقت، منطفئة تمامًا، وكأن اليأس قد تسرب لكامل الجسد الواهن، اقتربت منها وقد استشعرت روحها المعذبة، ووجدت نفسي أقبل يدها، رأيتها طفلة يتيمة لفظتها بيوت المحسنين، تركت لتموت وحيدة.
فتحت عينيها وقد عرفتني، “عاملة إيه يا طنط مديحة؟”، ردت بصوت في منتهى الأسى: "أنا تعبانة جدًا يا..." وقد نطقت اسمي.
رددت عليها وأنا مندهشة جدا “إزاي!! إذا كان الدكتور برة قالي أنك بتتحسني وحالتك مستقرة وإنك هتخرجي”، أقسم لكم أنها اعتدلت قليلًا وابتسمت كطفل وجد أمه بعد تيه كبير، "بجد، بجد يا...."، وكررت اسمي، قلت لها "هو معقول محدش قالك ده؟".
لقد نادتني الممرضة بينما كانت تعدل رأسها وسحبت يدي بهدوء من فوق يدها، كنت ابتسم لها بيقين جعل عيناها تتعلق بي وأنا أغادر الغرفة.
لقد سافرت بعد هذا الموقف الذي لم أخبر به أحد لسنوات طويلة، عرفت فيما بعد أنها عاشت هي الأخرى سنوات معدودة، لكنها في النهاية ماتت، ولكن هذه المرة على فراشها وأختها إلى جوارها.