عن أحاديث انتهاء الأزمة: سرديات ماو
دار سجال مقتضب - على موقع إكس - بيني وبين روبن بروكس وهو من أبرز المحللين في الشأن الاقتصادي، حول الوضع الاقتصادي الحالي في مصر والآليات المتبعة للخروج من الأزمة في ضوء تحرك المركزي لتحرير سعر الصرف بعد حصوله على تدفقات نقدية تسانده من صفقة رأس الحكمة.
أشار الرجل في حديثه إلى حدوث عملية تخفيض لقيمة العملة في مصر، ورأى أنه إجراء لم يكن هناك مفر منه، محذرا من أنه إذا أعادت الدولة الآن ربط سعر صرف الدولار/الجنيه عند مستوى 50 جنيها للدولار، فإن كل ما تم سوف يكون بلا جدوى.
فالتضخم في تقديره سوف يؤدي جبرا إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي، وهو ما حدث بعد كل عملية تخفيض سابقة، بدءا مما تم في 2016 مرورا بمارس 2022 وأكتوبر من نفس العام حتى يناير الماضي، كما أكد أن الدولة سوف تحتاج إلى خفض سعر الصرف مرة أخرى.
تحدث بروكس من وجهة نظر فنية بحتة، وربما أغفل ان الضغط على سعر الصرف هو خلل هيكلي، يرجع أساسا إلى عدم معالجة المشكلات الرئيسية في الاقتصاد، بما يدفع مرارا إلى تحريك عنيف للعملة حتى يتم القضاء على الضغط المتراكم، ويصحب ذلك في كل مرة حالة تهليل وحديث عن انتهاء الأزمة.
كما أنه نسي وضع مؤسف يعايشه الاقتصاد المصري وهو مستوى التغول المالي العنيف الذي وصل إلى مرحلة خطرة تجعل تحريك سعر الصرف - بالطريقة التي يتحدث عنها روبن-، أمر مدمر لأن عجز الموازنة وهو أحد أكبر مواطن الخلل لن يتحمل تصحيح كامل وسوف يدفع التضخم إلى مستويات صعبة المنال.
وفي تقديري فالتحرك السليم لا يمكن أن يقتصر عند تحريك سعر الصرف، في ظل احتياجه عدة إجراءات أخرى حتى يكون ذا جدوى، وأهمها بالطبع تحقيق انضباط مالي حقيقي يعزز فرص الوصول إلى المرونة الكاملة بدلا من حالة اللف في الدوائر المفرغة كما حدث سابقا.
فالسياسة النقدية من خلال التحرك الأخير قد أخذت زمام المبادرة لإصلاح المسار، لكن كما نقول "إيد لوحدها مش هتصقف"، بل إن الوضع سوف يتدهور إذا لم تتواكب معها سياسة مالية منضبطة تراعي ظروف المرحلة وإمكانيات الدولة، بجانب التوجه نحو اقتصاد تشغيلي حقيقي يضبط عجز الميزان التجاري للدولة أو على الأقل تصحيح وضع الحساب الرأسمالي ليستوعب الضغوط الناجمة عن هذا العجز.
آمل أن يكون روبن على خطأ وأظن أن الأيام القليلة المقبلة سوف تتضح فيها الرؤية أكثر، في ضوء مدى قدرة الدولة على مواجهة التشوهات التي تتصدر المشهد من متأخرات في المواني أو مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في السوق، وكذا تغطية الطلب على العملة بشكل حقيقي كمرحلة أولى.
وفي الحقيقة فإن الإشكالية الأكبر التي تواجه الحكومة والبنك المركزي حاليا هي مسألة التضخم لأنها ما تهم المواطن وتتماس معه بعيدا عن أي شيء آخر، وهو ما يتطلب مسارا مغايرا لسياسة الإنفاق المتبعة ووضع خطة محكمة للترشيد، وجدولا زمنيا لتخارج الدولة بكل مؤسساتها من الاقتصاد، وتفعيل آليات واضحة وفعالة لمواجهة معدلات التضخم المرتفعة التي جاوزت الحدود الآمنة مؤخرا.
فالتضخم في مصر قد بلغ مستويات مؤلمة في آخر سنة محققا معدلات تعدت رقم القياسي ٣٥.١٪، الذي وصل إليه في يونيو ١٩٨٦، والذي صمد لمدة ٣٧ سنة، فقد شهد شهر فبراير الماضي رقما قياسيا جديدا من حيث وتيرة الزيادة الشهرية، حيث قفز التضخم بنسبة 11.4٪ على أساس شهري من 1.6٪ في يناير، وهذه الزيادة الشهرية هي الأعلى تاريخيا، وهو ما يجعل التدخل لحماية المواطن باستخدام كل الأدوات الممكنة فرض عين، أما الحديث عن انتهاء الأزمة ووجود تضحيات صغيرة أخرى متبقية فهو محض "تهريج".
فالحكومة منذ عامين تقريبا وهي تفصل مسارها واهتماماتها عن حاجات المواطن، وكان من الممكن تفهم ذلك في ظل أولوية عدم التعثر عن سداد الديون، إلا أن الاستمرار في هذا النهج الذي يعلي من خيار التضحية بالمواطن فهو أقرب إلى "سرديات ماو" التي واجهها الشعب الصيني في خمسينيات القرن الماضي.
فقد عانى الاقتصاد الصيني وقتها بسبب السياسات المخططة مركزيا، مثل "القفزة الكبرى إلى الأمام" و"الثورة الثقافية"، مما أدى إلى الركود وعدم الكفاءة والفقر، وكانت سياسات ماو تسي تونغ رئيس الحزب الشيوعي، مسؤولة عن أعداد هائلة من الوفيات، حيث تراوحت التقديرات بين 40 إلى 80 مليون ضحية بسبب المجاعة والاضطهاد والعمل في السجون والإعدامات الجماعية.
ومنذ عام 1950 إلى عام 1973، نما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الصين بمعدل 2.9% سنويا في المتوسط، مما وضع الصين بالقرب من منتصف الدول الآسيوية خلال نفس الفترة، وابتداءً من عام 1970، دخل الاقتصاد الصيني في فترة من الركود.
وبعد وفاة ماو تسي تونغ، قررت قيادة الحزب الشيوعي الصيني التخلي عن "الماوية" والتحول إلى الإصلاحات الموجهة نحو السوق لإنقاذ الاقتصاد الراكد، وأتت إصلاحات دنغ شياو بينغ لتواجه توغل ملكية الدولة والتخطيط المركزي الذي كان يهيمن على الاقتصاد الصيني.
تخيل أن الدولة ضحت بـ ٤٠ مليون مواطن على أقل تقدير في سبيل تحقيق رؤيتها وسوقت ذلك بأنها ضريبة التنمية، ليتضح لاحقا أن هذه السياسات لم تكن على قدر كبير من النجاح، بما رسخ قاعدة اقتصادية مضمونها أنه حين يئن المواطن من التضخم، يصبح دور الدولة أن تعيد تقييم مسارها لتخفف عنه لا أن تغرقه في "سرديات ماو".