كنوز
لعل الصورة التي تسبق وتتبادر إلى عقولنا وخيالنا الإنساني ونحن نقرأ أو نسمع هذه الكلمة هى تلك الصورة النمطية المتلألئة البراقة المترسخة في عقولنا من الخيال والأساطير التي كانت تلقى إلينا من حكايات العجائز مصحوبة بنظرات العيون وشهقات الصدور التي تسهم في رسم الصورة لصناديق مملوءة بنفيس المعادن والجواهر، مشحونة بكل كريم من الأحجار، والتي هي –على خفة وزنها يغلو ثمنها وتعلو قيمتها- وتمثل لصاحبها ومالكها ثروة طائلة وعظيمة ويظن أنه بحيازته لمثل هذه الكنوز بما فيها أصبح بمأمن من عوادي الدهر، وتقلبات الأيام، ولن تصيبه فاقة، ولن يعتر به عوز ولا حاجة.
وما "قارون" منا ببعيد، وقد أورد القرآن طرفا من قصته فى سورة القصص، قال تعالى "إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة...) القصص/76، وحدّثنا القرآن عن الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها فى سبيل الله، وقال تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة/34
ولكن...
من قال إن كلمة "الكنوز" إذا أطلقت فإنه لامعنى لها إلا هذه الصورة النمطية، والشكل المعهود المألوف في تراثنا وأدبياتنا.
ومن قال: إن الدار التي يبحث عنها الإنسان، ويجعلها هدفا يسعى إليه، وينفق ما لديه وتحت يديه ليصل إليها هي دار الدينا، التي لا تكاد تحلو حتى تعقب حلاوتها مرارة، ولا تكاد تصفو حتى يأتى بعد صفوها كدر وصدق من قال عنها:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى وقرارة الاكدار
دار متى ما أضحكت فى يومها أبكت غدا تبّا لها من دار
يقول الإمام القرطبى –رحمه الله- في تفسير قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة...)، قال: "الكنز" أصله في اللغة الضم والجمع، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة)، ويقول الإمام "الطبري" في تأويل هذه الآية بسنده إلى "سالم بن الجعد"-رضى الله عنه –قال: (لما أنزلت "والذين يكنزون الذهب والفضة..."، قال النبى –صلى الله عليه وسلم- تبّا للذهب، تبّا للفضة يقولها ثلاثا، قال: فشق ذلك على أصحاب النبى –صلى الله عليه وسلم- قالوا: فأي مال نتخذ؟!، فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك، فسأل النبى فقال: لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تعين أحدكم على دينه).
والحقّ أقول: إن الذهب والفضة وغيرها من النفائس ليست هى الكنوز التي يسعى لها الإنسان، ويستكثر منها ولا تصلح أن تكون زادا للدار الأخرة التي إليها المطمح وفيها المطمع والأمل برحمة الله تعالى- إنها دار القرار والخلود، إنها الجنة، التي لا يعترى داخلها وساكنها تحول ولا تغير عن أحوال الرضا والنعيم الإلهي بكل صوره وألوانه، شباب دائم لا هرم فيه، وصحة لا مرض معها، ونعيم لا بؤس ولا شقاء فيه، ولا انقطاع له؛ لأن مدده من عند الله صاحب العطاء الموصول، ولو لم يكن في الجنّة إلا رضا الملك –سبحانه وتعالى- ورؤيته لكفى.
فقد صح فى الحديث القدسى عن أبي سعيد الخدري- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ومالنا لا نرضى يارب وقد أعطيتنا مالم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يارب وأىّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا).
وعن سيدنا صهيب بن سنان الرومي –برضى الله عنه- أن رسول الله –صلّى الله –عليه وسلم تلا هذه الآية (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة...) يونس/26 تمّ قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنّة، وأهل النار النّار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ماهو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، قال: فو الله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقرّ لأعينهم)، فاللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم.
والكنوز التي نتحدث عنها، ونعمل على أن تكون زادا نلقاه عند الله في دار المزيد، لها نفاسة وقيمة تتضاءل بجانبها كنوز الدنيا المعهودة من الذهب والفضة والجواهر.
كنوزنا ستكون بمشئة الله قطوفا من كلام ربنا، ومن كلام نبينا -صلى الله عليه وسلم-
تعلموها واحرصوا عليها، وعمّروا القلوب ورطبوا الألسنة بها، وعلموها الناس ورغّبوهم فيها، فإنّ الدّالّ على الخير كفاعله، كما أرشدنا رسولنا عليه السلام.
ونحن في شهر رمضان، شهر القرآن والصيام والذكر والتسبيح، علينا ألا نغفل عن هذه الكنوز، ونكثر منها ونتدارس معانيها، ونتمسك بما فيها من طرق الخير الموصلة إلى الجنة بإذن الله تعالى.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.