كلاكيت عاشر مرة.. مصر أكبر من أن تسقط
تابعت عن كثب التقارير الصادرة عن وكالة فيتش وبنك جولدمان ساكس، بشأن الاقتصاد المصري وتوقعاتهما في المرحلة المقبلة، خاصة في ضوء التدفقات النقدية الضخمة التي سوف توفرها صفقة رأس الحكمة وكذا تطوير التعاون مع الاتحاد الأوروبي مؤخرا.
حملت مضامين هذه التقارير حالة من التفاؤل بتحسن مستوى سيولة العملة الأجنبية في السوق المصري، بما يمهد لوضع أفضل بعد فترة من شح المورد الدولاري بالشكل الذي أثر بالسلب على استقرار المشهد، ورتب إشكاليات كثيرة من بينها تراكم البضائع في الموانئ، وتزايد مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في السوق.
كما تعكس هذه التقارير سردية أن مصر أكبر من أن يسمح لها بالفشل too big to fail، والتي استعرضتها بالتفصيل في مقال سابق أشار إلى أن الدولة غير مؤهلة هيكليا لتحمل الصدمات العالمية، خاصة مع ارتفاع ديونها الخارجية وتجاوز فجوة التمويل للحدود الآمنة، لكنها أكبر من أن يُسمَح لها بالسقوط، وهو ما يظهر مرارا في دعم الدول الخليجية، وأيضا في موقف صندوق النقد الدولي رغم عدم تنفيذ جميع شروطه.
ورغم أن هذه التقارير ومثيلاتها المرتقبة في الفترة المقبلة تعطي إشارات كثيرة لاستقرار الوضع، كما توفر نبرة اطمئنان بشأن أزمة السيولة الدولارية، والتي تمثل العرض الأكبر لمشكلة الاقتصاد المصري والمتسببة في تدهور سعر العملة، إلا أنه لا ينبغي التعامل معها بحالة من الارتياح وتصوير الأزمة على أنها قد انتهت.
فصلب الأزمة في الحقيقة لم يكن قط في توافر الدولار بالشكل الكافي، لكن في وجود خلل هيكلي في منظومة الاقتصاد متأصل منذ عقود وللأسف لم يجتهد أحد بالقدر الكافي لمواجهته، فقط اهتممنا بالأعراض التي نجمت عنه وعلى رأسها مشكلة السيولة وقيمة العملة.
ما يؤكد حديثي أن هذه التقارير تشابه تلك التي صدرت وقت أول تحرير لسعر الصرف في 2016، بالشكل الذي أعطى انطباع وقتها بأن الأزمة قد انتهت خاصة مع التدفقات التي حققتها الأموال الساخنة، في حين أن الواقع كان مغايرا لذلك وهو ما كشفته الأزمة الأخيرة.
وقتها استكانت الدولة لحالة الاستقرار المؤقت التي وفرتها الأموال الساخنة، لكن لم تنتبه إلى المشكلة الأساسية التي كانت تتأصل يوما بعد يوم في منظومة الاقتصاد، فمضت في سياسات إنفاق متزايدة تنافي قدراتها بما رتب الوضع الحالي، الذي طغى فيه الاقتصاد التمويلي على الجانب التشغيلي رغم أنه الأساس.
أذكر أنني طرحت حينها مع أول تعويم للعملة، أن الدولة تحتاج إلى استغلال الفرصة بشكل صحيح، من خلال مراعاة التوجه نحو اقتصاد تشغيلي حقيقي وتشجيع عملية التصنيع وابتعادها عن مزاحمة القطاع الخاص في السوق، بأن تكتفي بدورها كمُنظم وليس كمشغل أو متحكم أو منافس.
حذرت أيضا من الفرح الشديد بالتدفقات الدولارية من الأموال الساخنة وخطورتها على السوق، وبالفعل صدرت توصيات بذلك من لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب برئاسة الدكتور حسين عيسى، والتي شرفت بعضويتها في هذه الفترة.
كما أنني في مطلع 2017 تقدمت بتعديل لقانون الموازنة لضمان حصر واستدامة الدين، ورغم أنه تمت الموافقة عليه، إلا أنه لم ير النور أو يُفعل، ليعيد الظرف الحالي نفس المشهد وذات المقترحات التي لم يعد تطبيقها رفاهية بل فرض عين، حتى لا نواجه نفس السيناريو مرة أخرى في القريب العاجل.
فالأزمة لم تكن قط في سعر الصرف، وكذلك لن تنتهي ما لم يتم اتخاذ إجراء حقيقي للتحول إلى اقتصاد تشغيلي يعمل على ضبط الميزان التجاري، ويتماشى معه تهدئة ماكينة الإنفاق المتزايد التي تعمل بشكل متواصل منذ سنوات بالشكل الذي أرهق الدولة وفاق قدراتها، وأيضا تسبب في ارتفاع معدلات التضخم.
أعلم أن الحديث يتزايد الآن عن ضرورة مواجهة التضخم وتشديد الإنفاق، لكن لا بد أن ينتقل ذلك من مجرد الحديث إلى خطط تطبيقية في الواقع، لتعكس عملية إدارة حقيقية لاقتصاد الدولة بعيدا عن فكر المشروعات الذي استشرى.
أؤكد ختاما أن لدينا فرصة لبداية جديدة قد تكون الاستدامة من نصيبها، لو تم استغلال الظرف بشكل صحيح واتبعنا خطة تقشف حقيقية مشفوعة بالأرقام، تكون أول خطواتها تسوية حساب وزارة المالية المفتوح لدى البنك المركزي، والتحول نحو إدارة اقتصادية حقيقية تتمسك بتحقيق مؤشرات اقتصادية فعلية كتلك التي تحتويها رؤية 2030، والتي لم يتحقق منها شيء حتى كتابة هذه السطور.