في ظل العدوان.. يوم في حياة مدير تمريض بغزة
وكأن دورة الزمان قد توقفت واختلفت.. فما كان قبل السابع من أكتوبر ليس كما بعده بأي حال من الأحوال، فطوال عملي عاصرت معظم الحروب والتصعيدات التي شنها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في القطاع؛ لكن هذه المرة ليست كسابقتها فهي الأقسى والأكثر عنفا وتجردا من الإنسانية؛ فمنذ أن ساقني قدري للعمل في وزارة الصحة الفلسطينية منذ منتصف عام 2000، بالمستشفى الأوروبي بغزة، لتبدأ رحلتي في خدمة المرضى مع انطلاق شرارة انتفاضة الأقصى في أكتوبر من العام نفسه.
منذ السابع من أكتوبر الماضي، تبدلت حياتي وحياة الكثيرين وانقلبت معها كثير من الأحوال في قطاع غزة، فصوت الزنانة طائرة التجسس الإسرائيلي لا تبرح سماء غزة ناهيك عن صوت القصف المتواصل بالليل والنهار والذي لا يفرق بين أحد من سكانها فالجميع مستهدف، لكن في المقابل يمثل لي صوت سيارات الإسعاف كارثة حقيقية؛ فمعناه وصول إصابات لمستشفى مرهق من كثرة الحالات مع نقص الأسرة وتراجع مخزون الأدوية والمستلزمات الطبية، فالكوادر الطبية داخل المستشفى الأوروبي برفح الفلسطينية، أصبحت مقيدة لا تقدر على أداء الخدمة كاملة وعاجزة أمام جرح ينزف ولا يتوقف من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، فهو المستشفى الوحيد الذي يخدم أكثر من مليون ونصف مليون مواطن نزحوا إلى المنطقة والتي صارات أملهم الوحيد للنجاة.
يبدأ يومي مبكرا بعد صلاة الفجر مباشرة أصل إلى المستشفى وأبدأ بمطالعة الأخبار، ومن خلال مجموعات العمل عبر مواقع التواصل الاجتماعي أبدأ قراءة تقرير مشرف التمريض عن الليلة السابقة والذي يستعرض فيه أحوال الأقسام خاصة قسم الطوارئ وما وصله من إصابات وشهداء، ومن ثم تنطلق بي حافلة العمل وفيها أطمئن أن أعدد الموظفين كاف للقيام بمهام اليوم، وفور وصولنا أتوجه للمسعفين بسيارات الإسعاف لمعرفة الحالات المزمع سفرها إلى المعبر وهل هناك منها حالات مبيت داخل الأقسام للاستفادة من الأسرة التي تركوها لإدخال حالات من الطوارئ في الأقسام وخاصة في ظل الازدحام الشديد واكتظاظ المستشفى بحالات الإصابات حتى أن بعض الحالات تنتظر عدة أيام في الطوارئ حتى نتمكن من تدبير سرير لها.
فور وصولي إلى مكتبي وعقب الانتهاء من اجتماع مشرفي التمريض المغادرين أو من يبدأون دوامهم، سيل من المشاكل لا يتوقف من مريض هنا ومرافق هناك يبحث عن سرير؛ ومن موظف تم تدمير بيته يبحث عن مأوي، ومن موظف قادم من شمال قطاع غزة يريد الاستقرار بأسرته والعمل، أضف إلى ذلك استقبال الوفود والعمل للحصول على أي معونة لتعين الطواقم على عملهم.
مشاكل وأزمات لا تنتهي ولا تتوقف ودوما أنت أمام الجميع متهم بالتقصير، وخاصة ممن فقد بيته أو استشهد أهله فهو يعتبرك دوما غير مقدر لمعاناته، ورغم ذلك أحرص ومعي جميع الكوادر الطبية والإدارية على محاولة امتصاص غضبهم فالوضع لا يمكن تصوره أو تخيله، وفي المساء يكون الانتظار للمرضى وذويهم لصدور كشف بأسماء المرضى ممن يسافروا للعلاج بالخارج وفرحته التي أرها كأنها نجاح في الثانوية العامة.
مع انتهاء دوامي وعودتي لمنزلي لا يتوقف الهاتف في حال توافرت شبكة الاتصالات أو خدمة الإنترنت عن إصدار أصوات لاتصالات أو وصول رسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ فالعمل لا يتوقف طالما القصف والقتل مستمر للشعب الفلسطيني، فهي رحلة يومية من المعاناة والألم والعجز مع نقص الأدوية والمستلزمات الطبية وهول الموقف استمرت لأكثر من 160 يوما، وليس لها من دون الله كاشفة.