الإمام الشافعي.. مجدّد المائة الثانية
ويتواصل حديثنا عن ذلك العلم الشامخ الإمام محمد بن إدريس الشافعي، أحد رموز الحضارة الإسلامية، وأحد أعلام الفقه الإسلامي وأصوله، وصاحب المذهب الفقهي المعروف، ولم يكن علم "الشافعي" قاصرا على مجال الفقه، بل كان إماما فى كثير من العلوم اللغوية والشرعية.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في دراسته عن الإمام الشافعي: (أوتي –رضى الله عنه –علم العربية، وأوتى علم الكتاب، ففقه معانيه، وطب أسراره ومراميه..).
ثم يسوق شهادة لأحد تلاميذه قال: (كان الشافعى إذا أخذ فى التفسير كأنه شاهد التنزيل، وأوتى علم الحديث، فحفظ موطأ مالك،وضبط قواعد السنة وفهم مراميها، والاستشهاد بها، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها، وأوتى فقه الرأى والقياس..)، ويقول عنه الإمام الربيع بن سليمان: (كان الشافعى –رحمه الله-يجلس فى حلقته إذا صلى الصبح،فيأتيه أهل القرءان فإذا طلعت الشمس قاموا، وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا، فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر،فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر،فلا يزالون ألى قرب انتصاف النهار..)، ثم يعدد الشيخ / محمد أبو زهرة بعض المواهب التى أهلت الإمام "الشافعى" للوصول إلى هذه الدرجة من العلم فى شتى المجالات –بفضل الله تعالى -،وذكر منها 1- الاخلاص وتقوى الله 2-صفاء النفس عن أدران الدنيا وشهواتها 3-نفاذ البصيرة وقوة الفراسة.
4-قوة المدارك العقلية والجسدية. 5- الفصاحة والبلاغة وتملكه زمام اللغة.... وغير ذلك.
-ويمكن ان تضيف الى ذلك: أنه عاش في ذلك العصر الذى ازدهرت فيه العلوم، واهتم الخلفاء بالعلماء، والترجمة والتدوين، ونعنى به العصر العباسى الأول، عصر القوة والازدهار، وكان لذلك أثر كبير فى هذا البناء والتكوين العلمى للإمام الشافعى.
كتاب "الرسالة " للإمام الشافعي:
يعتبر كتاب ( الرسالة) أول كتاب ألف فى علم أصول الفقه، وقام فيه الشافعي بترتيب أبوابه وأقسامه، وسمى الكتاب ب "الرسالة " لأنه كتبه بناء على طلب من " عبدالرحمن بن مهدى " يلتمس فيه من الشافعى أن يبين له فى كتاب يؤلفه شرائط الاستدلال بالقرءان والسنة والاجماع والقياس، والناسخ والمنسوخ..)، فصنفه بناء على طلبه وأرسلها إليه وكانت رسالة مباركة على وجازتها، تضمنت علما وفضلا كتيرا، وأثنى عليها العلماء، وتناولوها بالشرح والتعليق، وكتب الله لها الانتشار والقبول.
-يقول " عبدالرحمن بن مهدى فى شأنها:( لما نظرت " "الرسالة" للشافعى أذهلتنى؛لاننى رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح،فإنى أكثر الدعاء له).
وقال الإمام "المزني صاحب الشافعى وتلميذه: (قرأت كتاب الرسالة للشافعى خمسائة مرة، ما من مرة فيها إلا واستفدت فائدة جديدة لم أستفدها فى الأخرى )، وقال:(إنى لأنظر فى كتاب "الرسالة " عن الشافعى منذ خمسين سنة، ما أعلم أنى نظرت فيه من مرة إلا وأنا أستفيد شيئا لم أكن عرفته، وقد توفى "المزنى "سنة 264 هجريا.
جانب من ثناء العلماء على الإمام الشافعي
كثيرون هم العلماء الذين أثنوا على الإمام الشافعى معترفين بفضله وعلمه، ومنهم شيوخ له أومن أقرانه، ومنهم تلاميذه والذين أتوا من بعده من غير معاصريه، ومن هؤلاء –بل على رأسهم –إمام أهل السنة "أبو عبدالله أحمد بن حنبل "-رضى الله عنه-، وهو معدود من تلاميذ "الشافعى" يقول ابنه "عبدالله بن أحمد بن حنبل " قلت لأبى: "يأ ابة أى شئ كان الشافعى؟ فإنك تكثر من الدعاء له، قال: يا بنى،الشافعى كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف،أوعنهما من عوض؟! ولما روى الإمام "أحمد" حديث رسول الله:(إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لهم دينهم ) قال: نظرت فى رأس المائة الأولى، فإذا هو " عمر بن عبد العزيز"،ونظرت فى رأس المائة الثانية، فإذا هو "محمد بن إدريس الشافعى"، ولما عوتب" الإمام أحمد" على تركه طلب الحديث على يد أكابر المحدثين والعلماء، وجلوسه إلى الشافعى، قال لمن عاتبه: (اسكت، فإن فاتك حديث بعلوّ تدركه بنزول، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألا تجده إلى يوم القيامة).
-ولو ذهبنا نستقصى ما قاله العلماء فى فضله وعلمه وفقهه وأخلاقه لضاق بنا المقام –رضى الله عنه وأرضاه.
وفاته: وبعد هذه الحياة الحافلة بطلب العلم، وتعليم الناس، وتأليف الكتب، والدفاع عن الإسلام، حياة ملؤها العبادة والطاعة، حط الشافعى رحاله فى مصر التى تشرفت به سنة 199هجريا، وقضى بها ما بقى من حياته إلى أن ترجل الفارس، ونزل القضاء، فتوفى –رضى الله عنه- ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء، ودفن يوم الجمعة التى كان صبيحتها أول شعبان سنة 204هجريا، ودفن بمصر، ومسجده وقبره معروفان مشهوران، وتشرف تراب مصر أن حوى جسد هذا العلم الشامخ –رضى الله عنه ورحمه رحمة واسعة.
وكان من أواخر ما تمثل به وهو على فراش الموت قوله:
ولما قسا قلبى وضاقت مذاهبى *** جعلت الرجا منى لعفوك سلما
تعاظمني ذنبى فلما قرنته *** بعفوك ربى كان عفوك أعظما
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.