انقطاع الكهرباء وحقيقة الأزمة
لم يعد خافيا أن هناك أزمة متذبذبة تعايشها الدولة المصرية فيما يخص الطاقة منذ عقود، فتارة يكون الإنتاج وفير نلجأ بناء عليه إلى التصدير، وفي أخرى يشح لدرجة تجبرنا على الاستيراد، وهو أمر بات معتاد وعليه إشارات ودلائل عديدة للأسف.
وفي الحقيقة فإن داعي الحديث عن هذا الأمر يأتي بعد إعلان الحكومة عودة جدول تخفيف الكهرباء في المحافظات المختلفة، رغم أن ذلك يتزامن مع عدة أخبار إيجابية تتحدث عن تقلص عجز صافي الأصول الأجنبية للبنوك المصرية إلى 22 مليار دولار في فبراير، وكذا ارتفاع الاحتياطي النقدي 5 مليارات دولار في مارس ليسجل 40.36 مليار دولار.
وللاطلاع على مقال: انقطاع الكهرباء وحقيقة الأزمة اضـغـــــــــط هـــــــــــــــنـا
ففي الوقت الذي تبدأ مؤشرات الاقتصاد الكلي في التحسن بحكم التغيرات خلال الأسابيع القليلة الماضية، تواجهنا الحكومة بخيار بائس عن واقع معيشي مأزوم يحتاج لأن تنعكس عليه أيا من مشاهد التحسن، على الأقل حتى تتواكب حالة الاستقرار التي تصدرها الحكومة عن حالة الاقتصاد مع ما يعايشه المواطن، بدلا من حالة الانفصال التي طالت كل شيء تقريبا.
ولعل انقطاع الكهرباء في هذا الوقت الذي حققت فيه الدولة إيرادات دولارية عظيمة نتاج صفقة رأس الحكمة أو الاتفاقات مع صندوق النقد والاتحاد الأوروبي، خير دليل على اختلاف اهتمامات الحكومة عن أولويات المواطن.
بالضبط كما يدل موقف الحكومة في مداخلة متحدثها مع الإعلامية البارزة لميس الحديدي عند سؤاله عن أسباب التخفيف، ليقول إن أولوية الحكومة في استخدام أموال رأس الحكمة هي إنفاقها على توفير السلع والأدوية والقضاء على السوق السوداء للدولار، وأن الحكومة لن تستطع أن تصرف على الكهرباء كي لا تتأثر أسعار السلع والدولار.
لا أعلم أي انخفاض أسعار يتحدث حوله ومن أين أتى بادعاء أن المواطن بإمكانه تحمل قطع الكهرباء دون زيادة الأسعار، لكني على يقين بأن هذا التوجه يحقق ما تريده الحكومة ذاتها وليس للمواطن دخل فيه على الإطلاق سوى أنه يدفع الثمن فقط.
وفي الحقيقة فإن المواطن لديه حق هذه المرة أيضا، خاصة وأن سياسات التخطيط الحكومي هي السبب فيما نعايشه من أزمة في ملف الطاقة، رغم الحديث في أحيان سابقة عن تحقيق إنجازات ضخمة في هذا المجال وبالذات في توليد الكهرباء، فإن الواقع الحالي يعج بحالة من سوء الإدارة وضعف التخطيط في ملف الطاقة بشكل عام.
فما حدث في هذا القطاع على مدار العامين الماضيين يمثل في تقديري "قصة فشل" تستحق الدراسة المتأنية، فبعد أن توسمنا تحول مصر لمركز عالمي لتداول الطاقة، خاصة مع ارتفاع إنتاج الغاز ودخولنا على خط التصدير بكميات متزايدة، فوجئنا الآن بانخفاض إنتاج الغاز، وانحسار التصدير وعودة أرقام الاستيراد لمعدلات قياسية، وسط ملامح لأزمات تلوح في الأفق حتى فترة ليست قصيرة.
فقد شهدت صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال تراجعا بنسبة 51.8 خلال 2023، لعدة أسباب، وأولها تأثير مشكلات تسرب المياه في حقل ظهر على الإنتاج مما أدى لانخفاض الإنتاج طبقا لفيتش سوليوشنز وmees، خاصة وأن الحقل المكتشف حديثا والذي كان في حاجة إلى مزيد من الوقت في عملية التطوير يمثل 40% من إنتاج الدولة.
بل إن تقرير ل بيتر ستيفنسون نشر خلال الأسبوع يشير إلى أن شركة ايني المطور للحقل قد عدلت مؤخرا تقديراتها لاحتياطي الغاز الحالي بحقل ظهر إلى أقل من 10 ترليون قدم مكعب، والتي كانت في بداية تشغيل الحقل تقدر بـ 30 تريليون قدم مكعب.
ناهيك عن تسبب فترة أزمة الدولار التي شهدتها الدولة منذ 2022، تراجعا في أعمال التنقيب الجديدة بسبب تأخر مدفوعات شركات البترول الأجنبية، وهو ما أدى إلى عدم دخول حقول جديدة لمرحلة الإنتاج حتى تعوض النقص الذي طرأ على الحقول الحالية، ورغم تجاوز هذه الفترة إلا أننا لم نشهد جديد يخص هذه المتأخرات حيث لم تتخطى المدفوعات 15% من المتأخرات.
الإشكالية الكبرى تكمن في حالة البطء في إجراءات الحل، رغم وضوح الأزمة مبكرا والتحذير منها سوءا من مؤسسات محلية أو دولية، وهو ما يظهر في تأخر التعاقد على وحدات إعادة التغويز العائمة FSRU وعدم اعتماد سيولة لاستيراد غاز مسال، بما يطيل الآن فترة معالجة الأزمة وقد يدخلنا في سيناريو أسوأ.
كانت الحكومة تراهن على إتمام عملية ازدواج خط غاز شرق المتوسط (عسقلان - العريش) وتحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة، لكن الظرف أدى إلى تأخيرات متتالية في إتمام هذه العملية، مما يؤكد أن ظهرنا أصبح لا يستند على شيء سوى استيراد الغاز المسال لتقليل فترة الانقطاع التي تشير الإحصاءات إلى أنها قد تطول إلى 4 ساعات يوميا.
والسبب في كل ذلك هو غياب أي استراتيجيات لدى الحكومة لإدارة الموقف والتخطيط طويل المدى لمصادر الطاقة وتنويعها من أجل استدامة الحلول.. بالضبط كما ذكرت في مقال سابق بعنوان الفريضة الغائبة وصفت فيه الوضع بأن الحكومة "تعمل قطاعي"، فتعالج مشكلاتنا يوما بيوم دون استراتيجية واضحة أو حتى مبهمة، وكل التحركات تتم فقط من أجل تسكين عوارض الأزمة، في سياسة أقرب لـ"الترقيع" التي إن نجحت فهي فقط سوف تطيل فترة تحمل الأزمة، لكنها لن تحقق المأمول.
أما عن الحلول العاجلة، فتشير مؤشرات المستقبل القريب إلى أن مصر قد أتمت التعاقد على شحنتين غاز مسال شهريا وكذا اقتربت من التعاقد على محطة "تغويز" FSRU لمدة 18 شهر بجانب استخدام محطة تغويز العقبة، كما أعلنت الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية إيجاز، عن خطة طموحة بتكلفة تتعدى الـ 2 مليار دولار خلال العام المالي 2024-2025 لتطوير عمليات الكشف والتنقيب ورفع كفاءة انتاج الغاز، حتى لا تمتد الأزمة أكثر من المتوقع لها.
وبالنسبة لحلول المدى الطويل دعوني استعير ما كتبه موقع "‘إنرچي انتل" المتخصص بأن صناع القرار في مصر قد يواجهون المسائلة حول اتخاذهم دائما حلول الدقائق الأخيرة"، خاصة وأن ملف الطاقة قد غاب عنه أية استراتيجيات ضابطة ومحددة للمستقبل في ضوء الاحتياجات والقدرات أيضا، ويحتاج الآن إلى تجاوز كل ذلك بإعادة التخطيط والتعامل بحرفية مع موارد الدولة ومصادرها المتنوعة من الطاقة، حتى لا يستمر الموقف كما هو عليه بالشكل الذي يجعله يواجه أزمات أكثر من أوقات الاستقرار.
وربما قد آن الأوان للتعامل مع الطاقة كملف شامل يضم حقيبة واحدة للبترول والكهرباء حتى لا تظل دماء الأزمة متفرقة بين القبائل، كما شهدنا الصيف الماضي من تبادل الاتهامات بين وزارتي الكهرباء والبترول دون أي تقدم في المشهد.