بين اللقطة والتخطيط
تناولت في المقال السابق "انقطاع الكهرباء وحقيقة الأزمة"، أسباب لجوء الحكومة إلى تخفيف الأحمال، وإلى أي مدى قد أنتجت سياسة الترقيع وعدم وجود استراتيجيات مُتبعة لإدارة الموقف والتخطيط طويل المدى لمصادر الطاقة في تحول الدولة من مُصدر للغاز إلى مستورد في فترة وجيزة، كما أشرتُ إلى دور البطء في إجراءات الحل في تعاظم الأزمة منوها عما يجب البدء فيه سريعا.
لكن الإشكالية الأكبر في تقديري هي عدم اعتراف الحكومة بالتسبب في الأزمة والتعتييم على أية أخبار من شأنها الإشارة إلى تقصير منها، لدرجة أنها تحاول أن تجد لنفسها مخرجا بأن ترمي الكرة في ملعب المواطن، الذي لا حول له ولا قوة سوى أنه يدفع ثمن خطايا الحكومة في ملف الطاقة برمته- إن جاز هذا الوصف.
من ذلك ما طرحه متحدث الحكومة خلال مداخلته مع الإعلامي المرموق عمرو أديب، بأن الحكومة مدركة لكل الأعباء المترتبة على تخفيف أحمال الكهرباء، إلا أنه لا خيار آخر لديها خاصة وأن هذا النهج يوفر مليار دولار سنويا، وهو ما تستغله الحكومة لضبط سوق النقد أو لتوفير الأدوية المستوردة.
برر المتحدث الموقف، بأن المواطن قد يحتمل انقطاع الكهرباء إلا أنه لن يحتمل ارتفاع أسعار السلع الأساسية أو نقص الأدوية، الناتجين عن انفلات سوق النقد وشح العملة الأجنبية، كما أنه تملص من تحديد أي توقيت لإنتهاء الأزمة، بما يشير إلى استمرارها لفترة ليست قليلة وكذا عدم وجود أية بدائل على المدى القريب.
وبغض النظر عن مدى فداحة وقع تصريحات متحدث الحكومة على المتلقي، إلا أنه قد يكون سبيل لمحاولة فهم أُطر الاختيار العلمية التي تنتهجها الحكومة، خاصة وأنه يشير إلى "مقايضة" بين الصحة والكهرباء.
وفي الاقتصاد، يتم تعريف المقايضة "tradeoff"، على أنها فكرة إذا اخترت شيء، فسوف تخسر شيئًا آخر، حيث أن المقايضة هي اغتنام الفرصة للحصول على شيء ما، ولكن من أجل الحصول على هذا الشيء، عليك أن تتخلى عن شيء آخر أو تضحي به، ويعتبر مفهوم المقايضات أمر أساسي في التحليل الاقتصادي، إذ يساعد على فهم تكاليف وفوائد القرارات المختلفة، والتأثيرات المحتملة لها، فمن خلال النظر في هذه البدائل، يمكن الحكم بشكل أوضح حول كيفية تخصيص الموارد بكفاءة وفعالية.
لكن الإشكالية هي أن أسلوب المقايضات مفترض أساسا بين توجهات السياسات الاقتصادية المختلفة، فمثلا هل نسلك سياسة تشددية فتؤثر على البطالة؟ أم نتوسع في الانفاق العام، فيؤثر على التضخم؟، بمعنى أن هناك طرق مختلفة من الممكن إتباعها للوصول إلى هدف أسمى لكن بخسائر معلومة سلفا، وعلى متخذ القرار أن يفاضل بين هذه البدائل لاختيار الأنسب أو الممكن احتماله.
ورغم ذلك، تظل المقايضات بين الأساسيات هي أمرا غير مُتصور وغير منطقي وغير متعارف عليه بالأساس، وبدون خلاف الكهرباء تمثل الآن من أهم الاحتياجات الأساسية في حياة المواطن التي بدونها يتعطل كل شيء، وكما ذكر الاقتصادي مايكل تودارو: "كل الناس لديهم احتياجات أساسية معينة وبدونها تصبح الحياة مستحيلة، وعندما يغيب أي من هذه العناصر، يجوز لنا أن نعلن دون تحفظ عن وجود حالة من "التخلف التنموي المطلق".
والأخطر من كون تصريحات متحدث الحكومة معبرة عن فشل اقتصادي، هو أنها تشير أيضا إلى إفساد الفكر لما تحويه من مغالطات منطقية، خاصة وأنها تعتمد على ما يعرف بـ"The false dilemma fallacy" أو مغالطة المعضلة الكاذبة، والتي تتضمن تقديم عدد محدود من الخيارات كما لو كانت الخيارات الوحيدة المتاحة.
ويتجسد غياب التخطيط فيما أطلقه السيد رئيس الوزراء في 18 يناير 2021، في بيان أمام مجلس النواب بأن الحكومة حققت الاكتفاء الذاتي من الغاز وتستهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي بالكامل من المنتجات البترولية في ٢٠٢٣، وبالطبع نسبة تحقيق هذا المخطط الآن يمكن وصفها دون خجل بالكارثية.. فبعد قرابة العامين أصبح لدينا ٥٠٪ عجز في الغاز، ومازلنا نستورد25٪ - 30٪ من احتياجتنا من المنتجات البترولية مثل السولار.
أعلم أن ملف الطاقة قد بدأ بحالة أزمة، لكن ذلك لا ينفي المسئولية عن التخطيط وكيف تدرجنا سريعا من انفراجة لأزمة لإنفراجة في دورات عنيفة ومتلاحقة، والأمثلة عديدة من إنشاء محطات توليد كهرباء في زمن قياسي لحل المشكلة ثم سرعان ما نجد أنفسنا أمام أزمة في توفير الطاقة لتشغيل هذه المحطات، ثم اكتشاف حقل ظهر والحديث عن الاكتفاء والتحول لمركز طاقة إقليمي ثم خلال فترة وجيزة نلجأ إلى الاستيراد، وأخيرا نخفف الأحمال لتوفير النقد.
وقد تناولت في العام الماضي أيضا في مقال "أزمة الكهرباء أم أزمة التخطيط؟" بواعث الأزمة وتحليلها وللأسف أجد نفسي الآن أردد بنفس الحماسة البديهيات المنسية والفرائض الغائبة لعل وعسى أن يستمع أحد وأن نعترف بوجود ازمات في التخطيط والإدارة والتنفيذ، وأنبه مجددا إلى أن المرحلة المقبلة لا بد أن تتسم بعودة مبادئ التخطيط لهذا المشهد الذي يبدو عبثيا، خاصة وأن إدارة "اللقطة" والمشروع تختلف بشكل جذري عن إدارة المنظومة التي تفترض وجود استدامة في كل شيء دون تأرجح عنيف ما بين انجازات سريعة تنتهي بكبوات أعنف تستدعي لطميات مُستحقة.
علينا أن نلملم أفكارنا وننطلق من منظومة إدارة تعتمد على خطط مستقبلية واضحة ترتكن للاستدامة ومشفوعة بآليات تنفيذ محكمة ومؤشرات أداء واضحة.. نحن حقا نستطيع ولا يصح بأي حال أن يصل الأمر إلى هذا المنحدر.