موسى وفرعون.. هل يتعارض تاريخ مصر القديم مع الكتب السماوية؟
تابعت الجدل الدائر على مدار الأسبوع الماضي حول القرائن الأثرية والتاريخية بخصوص الحقبة التي قضاها نبي الله موسى بن عمران -عليه السلام- في مصر، والأحداث الجسام التي دارت في أثناءها من مواجهات بينه وبين "فرعون".
وهي مسألة بحثية تطرح نفسها من حين لآخر وسط علماء المصريات، وتتخذ طابعا دقيقا يتطلب يقظة علمية ووطنية، قبل الانجرار لأي طرح موجه يخدم شعوبا أو أعراق أخرى.
ويقتضي الأمر أدوات علمية حساسة وإطلاعا موسوعيا يمكّن صاحبه من الإحاطة بمختلف الأطروحات وحججها والحجج المناهضة لها.
ولما جاءت بعض التصريحات "العلمية" التي نفت وجود أي قرائن أثرية تاريخية تفيد بوجود شخص "موسى" – عليه سلام الله- في تاريخ مصر القديمة، لم تلق استحسانا ولا كامل التفهم من عموم الجماهير التي افترضت تضاربا بين الرواية العلمية والرواية الدينية، أو وفق فهم أكثر تطرفا اعتقدت أن الرواية العلمية تقوض الرواية الدينية وتجابهها.
وأود التفرقة بين عدم وجود قرائن أثرية بخصوص وجود سيدنا موسى، وبين نفي وجود سيدنا موسى نفسه في مصر في حقبة ما، فثبوتية شخص ورسالة كليم الله عليه السلام تستمد رسوخها في وجداننا من القرآن الكريم ومن قبله الكتب السماوية، إلا أن المسلك العلمي يتطلب دلائل ملموسة وأمارات جازمة، وفق نسق حيادي جدا، ويتحرك بمعزل عن إيمان المؤمنين أو إلحاد الملحدين أو تشكك المتشككين.
ومن ثم فإن انتفاء القرائن على وجود الحدث لا ينفي الحدث نفسه ولا يصادر احتمالية جريانه بالفعل!
وليس كل حدث جرى على وجه الأرض مهما كان عظيما، جرى توثيقه وتُركت القرائن الدالة عليه في كل حضارة أو كل حقبة تاريخية.
وكل هذا الجدل يفتح الباب أمام محاولة فهم أعمق لتاريخ مصر القديم وأبجديات تدوينه، ونفسية المصري القديم ومعتقده السياسي.
وأجدني مضطرا للعودة لأستاذي العظيم الدكتور محمد بيومي مهران- رحمه الله تعالى- ودراساته التأصيلية التي سعت لمضاهاة ما جاء في الوحي الشريف بتاريخ مصر القديم، ففي آرائه إزاء هذه المسألة أجد التفسير الأكثر مقبولية.
وقد كان الدكتور مهران علما وعلامة في تاريخ الشرق الأدنى القديم وتاريخ مصر القديمة، وكان حافظا متقنا للقرآن الكريم وله اهتمامات تتعلق بالتاريخ الإسلامي ومصادره.
ومن ملاحظتي له كدارس في جامعة الإسكندرية قبل عقود، كان يبحر في القضايا التاريخية، بين الحقب المختلفة، بموسوعية مذهلة وبعقل راجح وبقدرة صارمة على الفصل بين المشتبهات من القضايا.
ومما كان للدكتور مهران في هذا الصدد، أنه خلص إلى إن تدوين قصة سيدنا موسى وخروجه على فرعون في تاريخ مصر القديمة تكاد تكون عملية متعذرة!
فكاتب الملك ومؤرخه يستحيل أن يفسح المجال في الوثائق الرسمية في النقوش والبرديات وخلافه من مصادر، للحديث عن مجموعة مارقة عصت الحاكم وخرجت عليه، وانتهى المشهد بغرق الحاكم ونخبة من جنوده.
فهذا مجاف لعقيدة المصري القديم، الذي يرى الفرعون إلها في حد ذاته.
فالتاريخ يُكتب بتوجيه من الحاكم أو بإيعاز منه أو برضى على الأقل، ومن ثم لن تجد الحماسة متقدة للحديث عن نهاية مأساوية لأحد الحكام في مقابل غرق عبيده العبرانيين الهاربين.
ويرى الدكتور مهران، أن هذه ظاهرة يلمسها المؤرخ في تاريخ وحضارة الشرق الأدنى القديم بوجه عام، بالنسبة إلى تعمد عدم التعريف بالمارقين من وجهة نظر الحاكم.
وهو ما ينسحب من قصة موسى مع فرعون مصر إلى قصة الخليل إبراهيم مع ملك العراق، حيث لا توجد إشارات لإبراهيم – عليه السلام- في تاريخ العراق القديم أيضا.
إلا أن البعض تحجج بلوحة مرنبتاح التي حملت اسم "إسرائيل" لمرة واحدة في تاريخ مصر القديم بأكمله بالمنطوق "يزريار"، للتدليل على الوجود العبراني، وهو مزعم رده الكثير من العلماء مرجحين أن "يزريار" هو أحد الشعوب الكنعانية التي هزمها أمنحتب الثالث، سيما أن لوحة مرنبتاح تتحدث عن هزيمة الأعداء، ولم يرد "يزريار" فيها إلا في الأسطر الثلاثة الأخيرة.
بل حدد بعض علماء التاريخ أن موضع "يزريار" هو سهل البقاع في لبنان، ولا علاقة لها ببني إسرائيل من قريب أو من بعيد.
فضلا عن أن قصة فرعون موسى لا بد أن تكون أحداثها قد جرت في الدولة الحديثة، ذلك أن تعبير "فرعون" ظهر للمرة الأولى في النصوص المصرية في الدولة الحديثة بدءا من الأسرات 18 و19 و20، ويشار إليه بتعبير "برعو" من مقطعين "بر" و"عو" وهي البيت الكبير.
وقد تراوحت ترجيحات علماء المصريات في محاولة تحديد فرعون موسى، بأنه قد يكون أحمس الأول أو رمسيس الثاني أو مرنبتاح، ولكل طرح من الأطروحات الثلاث، توجد شواهد تعضد الفكرة وأمارات تقوضها، فلا يوجد اتفاق بينهم بدلائل ثابتة تجزم بهوية فرعون، ومن ثم تجزم العصر الذي كان فيه سيدنا موسى عليه السلام.
هذا الخلاف العلمي لا يفضي إلى إنكار عقائدي كما قد يفهم البعض، لكنه يعمق احترام العلم بأدواته التي لا تتسرع ولا تنساق وتسعى للاستيثاق من كل طرح قبل تبنيه، إذ أن العلم في نهاية المطاف أمانة كبرى.