الإثنين 23 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

إلى أين تتجه قضية القضايا؟

الأحد 05/مايو/2024 - 11:52 م

لم يكن وصف الرئيس السيسي للقضية الفلسطينية بقضية القضايا في أثناء تصريحات أدلى بها بعيد اندلاع الصراع في غزة، توصيفًا عشوائيًا من أجل النهوض بالهمم أو دغدغة المشاعر.. إنما هو توصيفًا تدركه دول المنطقة والقوى الدولية وتعي تمامًا معناه.

 فالقضية الفلسطينية أصبحت أحد المحركات الأساسية لتجاذبات السلم والصراع في منطقة الشرق الأوسط التقليدية على مدار أكثر من 70 عامًا، فبموجبها تحددت الأدوار، وتشكلت التكتلات، وكان لها تأثير كبير على تحديد إطار الدور الذي تلعبه القوى الكبرى في العالم بالمنطقة، حيث إن مصالحها لا تستثني أبدًا ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. ولم تكن هذه الأدوار والتكتلات الإقليمية والقوى الدولية الكبرى عاملًا ثابتًا في المعادلة من حيث طبيعة الدور والمصالح، فكثيرًا ما تغيرت هذه الأدوار ولاعبيها ومصالحهم وفقًا للتغيرات الجوهرية التي طرأت على الساحة الدولية وإقليم الشرق الأوسط.

فبريطانيا على سبيل المثال كانت سلطة الانتداب على أرض فلسطين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وسهلت موجات الهجرة الاستيطانية الصهيونية لأرض فلسطين، وأشرفت على وضع أحجار الأساس التي تأسست عليها دولة إسرائيل في عام 1948، حينها لعبت القوى الكبرى الصاعدة من ركام الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي دور داعم من المقاعد الخلفية لتحركات لندن التي كانت تسيطر فعليًا على مقاليد الأمور ليس فقط في فلسطين المحتلة، إنما في مصر والعراق والأردن أيضًا، تلك الدول التي لم تسطع أن تمنع الواقع الصهيوني الذي فرضته القوى الكبرى شرقًا وغربًا على فلسطين في لحظة وئام نادرة.

والفشل العربي كان سببه الرئيسي غياب الدعم الدولي لتلك الدول العربية التي دافعت عن الحقوق الفلسطينية المشروعة في أثناء خضوعها في الوقت ذاته للنفوذ البريطاني، وشكلت نكبة 1948 أحد المحركات الأساسية لحركات الإطاحة بالنظم الملكية في مصر (1952) والعراق (1958) ليخرجوا من تحت عباءة الإنجليز ويكون لهم دور مختلف تم إعادة صياغته وفقًا لعدة معطيات، منها: مجريات الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى مستوى القوى العظمى، تراجعت بريطانيا للخطوط الخلفية وتصدرت الولايات المتحدة المشهد كلاعب رئيسي في منطقة الشرق الأوسط والداعم الأساسي لإسرائيل، بينما روسيا السوفيتية التي دعمت قيام إسرائيل تحولت لدعم الجانب العربي الذي تبنى القضية الفلسطينية وانخرط في صدامات مع إسرائيل مثل مصر وسوريا والعراق.

 وكان محرك الموقف الروسي هو التنافس مع الولايات المتحدة على النفوذ في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم، في وقت رسمت فيه ملامح السياسة الدولية حالة الحرب الباردة التي ظلت تهيمن عليها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الانهيار الكامل للكتلة الشرقية في عام 1991.

وداخل المنطقة، جرت تحولات أيضًا منها تحول الدور المصري من قيادة معسكر الحرب ضد إسرائيل، لوسيط التسوية السلمية للقضية الفلسطينية على حدود 1967، وذلك بعد انتصار 1973، وما تلاه من عملية سلام أعادت لمصر سيناء وأخرجتها من بوتقة الصراع. 

وجرت تحولات أخرى للأدوار الإقليمية في وقت لاحق أهمها الثورة الإيرانية في عام 1979، والتي أطاحت بشاه إيران وأتت بنظام ولاية الفقيه الذي حول طهران من أول العواصم الإسلامية التي تعترف بدولة إسرائيل في عام 1948، إلى خصم لدود ينادي بزوالها، ويقاتلها عبر وكلائه في لبنان والأراضي المحتلة، وفي وقت لاحق بوكلائه في بلدان كالعراق وسوريا واليمن.

وعلى مستوى القوى العالمية، التغيرات الجزئية والكلية طرأت على التعاطي مع القضية الفلسطينية، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تحولت روسيا من داعم للمقاومة الفلسطينية لوسيط محدود النفوذ عبر رباعية دولية جمعته بالولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والصين التي كانت توفر دعم سخي بالمال والسلاح لعدد من الفصائل الفلسطينية اليسارية المتشددة، تحولت خلال التسعينيات لدولة تلعب دور الحياد لا يتعدى دعمها لفلسطين البيانات التضامنية المملة، والولايات المتحدة ظلت هي اللاعب الدولي الرئيسي في القضية الفلسطينية وتحول دورها جزئيًا بعد مؤتمر مدير واتفاقيات أوسلو من طرف داعم لإسرائيل، لوسيط يفتقد النزاهة والمصداقية يوفر دعم لا مشروط للطرف الأقوى (إسرائيل).

في ظل هذه السيولة التي سادت سنوات المأساة الفلسطينية الممتدة، نشبت صراعات أخرى في المنطقة، قد تبدو في ظاهرها عديمة الصلة بالقضية الفلسطينية، وهي في واقع الأمر تأثرت بها وأثرت عليها، فالحرب العراقية الإيرانية على سبيل المثال، كانت لها محركات عديدة أهمها التنافس بين نظام الملالي الثوري ونظام صدام حسين البعثي على أحقية الهيمنة على منطقة الخليج والشرق الأوسط، إلا أن القضية الفلسطينية كانت حاضرة، فالخميني وضع من ضمن مبررات حربه مع صدام ضرورة إسقاط الأخير و"تحرير" العراق من حكمه قبيل تحرير القدس..

وصدام هو الآخر وضع الهدف الأسمى لمشروع الهيمنة الخاص به تحرير فلسطين، وعندما احتل الكويت في 1990، كان أحد مبرراته قبول العالم لاحتلال فلسطين واحتلاله للكويت هو بداية لتحرير فلسطين، وعندما طالبوه بالانسحاب (قبيل إجباره على ذلك عسكريًا) طالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة مقابل خروجه هو من الكويت. 

وعلى المستوي الدولي كان أحد المبررات الرئيسية لهجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية،  دور الولايات المتحدة الداعم لإسرائيل، وعندما شنت واشنطن حربها على الإرهاب واحتلت أفغانستان والعراق وعاثت في المنطقة والعالم فسادًا، استخدمت إسرائيل ذلك لتقويض مكاسب مسار أوسلو الضئيلة تحت زريعة "مكافحة الإرهاب الفلسطيني" لتجهز على الانتفاضة الفلسطينية الثانية وتقمعها بأبشع الصور.

هذا السرد الذي أعرضه على سيادتكم في هذا المقال، الغرض منه تسليط الضوء على التغيرات الدولية والإقليمية وما تركته من آثار في مجملها سلبي وهدام على القضية الفلسطينية، كما يهدف السرد أيضا لتأكيد واقع لا يمكن إنكاره أي أن الصراعات المزمنة في المنطقة ما انتهى منها وبقي وما جد أحد محركاته المهمة استمرار معاناة الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقه الأصيل في تحديد المصير.

وهذا ينقلنا إلى ما تشهده المنطقة اليوم من اضطراب خطير على إثر حرب غزة، فالعدوان الإسرائيلي الأبشع على الإطلاق ضد الشعب الفلسطيني والذي لا يزال مستمرًا بمنتهى القسوة والهمجية يهدد بإشعال المنطقة بشكل لم تشهده من قبل، فهو كان سببًا مباشرًا وراء التعطيل الجزئي للملاحة، في باب المندب وقناة السويس بسبب استهداف جماعة الحوثي اليمنية للسفن ذات الصلات التجارية مع إسرائيل، والمناوشات الخطيرة على حدود إسرائيل مع لبنان وسوريا، والضربات المتبادلة وإن كانت محدودة بين إسرائيل وإيران التي تكمن خطورتها في اكتسابها لأول مرة طابع الصدام المباشر، ما أحدث سيولة في قواعد الاشتباك بين تل أبيب وطهران، التي كانت مستقرة ومحظور العبث بها إلى أن حدث ما حدث في 7 أكتوبر وما تلاه من مأساة.

 كما تهدد الحرب في غزة بوضوح سلام إسرائيل مع مصر الذي ظل مستقرًا رغم برودته إلى أن اشتعلت الأمور ومضت إسرائيل في مخططها لتصفية القضية الفلسطينية، وإن كان ذلك على حساب أمن مصر القومي واستقرار المنطقة والضمير الإنساني.. هذا يجعلنا نطرح تساؤلًا مشروعًا حول ما ستؤول إليه القضية الفلسطينية بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة.

 طبعا تكمن إجابة هذا السؤال فيما إن كانت تل أبيب ستفلح في تحقيق أهداف عدوانها بالكامل أم لا، ولكن هذا ليس العامل الوحيد، حيث إن القضية الفلسطينية عادت لصدارة الاهتمام العالمي بعد غياب طويل، وإسرائيل بسبب فرط همجيتها وإجرامها تعرضت للإدانة المعنوية والأخلاقية بعد تحرك المحاكم دولية ضدها وإن كان على مضد، وبتعرضها للإدانة من أغلب دول الجنوب العالمي ومن بعض حلفائها الغربيين حتى فقدت دولة الاحتلال الكثير من التعاطف بعد ما اقترفته من جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات، ودفع هذا العالم والولايات المتحدة للحديث من جديد عن حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية. 

ولكن هذا الكلام بالرغم من مظهره المشجع، إلا أنه في مضمونه قد يكون خاويًا، أو حتى مضرًا إن مضى في طريق في ظاهره العدل والإنصاف وفي باطنه التحايل والخداع، فمثلًا تتحدث الولايات المتحدة عن اعتراف بدولة فلسطينية دون تحديد حدودها الجغرافية، بالرغم من اعتراف أغلب دول العالم والأمم المتحدة بتلك الحدود أي حدود 4 يونيو 1967، هنا قد يكون هذا الاعتراف شرعنة للمستوطنات الإسرائيلية داخل الضفة الغربية، وشرعنة لضم إسرائيل للقدس الشرقية وللاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من قطاع غزة، وإذا اتخذت الولايات المتحدة هذه الخطوة ستتبعها أغلب القوى الغربية لتخرج إسرائيل من جديد من مرمى الاتهام والتنديد والإدانة، لمرمى الشريك الديمقراطي الإنساني المسؤول الذي يجابه مخاطر التطرف والإرهاب، تلك التمثيلية الفارغة التي أهدرت إنسانية الفلسطينيين وأباحت تهجيرهم والتنكيل بهم وحتى إبادتهم على مرأى ومسمع الجميع دون ذرة خجل.

علينا بدراسة التاريخ، والتاريخ يحتم على الدول العربية التكاتف بما لديها من أوراق ضغط متناثرة، إذا اجتمعت سيكون لها الأثر المطلوب لتعزيز الموقف الفلسطيني، فالخليج بنفطه وماله ومصر بثقلها التاريخي وموقعها الاستراتيجي من الممكن أن يكون لدورهم الجماعي الفعال تأثير مغاير يضع القضية الفلسطينية في وضعية أفضل، والداخل الفلسطيني المتفتت يجب أن يستجمع شتاته ويتوحد تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد والتاريخي للشعب الفلسطيني، على أن تجدد دماء قيادتها لتعود إليها الروح وتستطيع أن تدمج عناصر فلسطينية أخرى مثل حماس والجهاد الإسلامي، وحماس يجب أن ترتضي أن تكون جزءًا من الواقع الفلسطيني وألا تعمل على تعزيز دورها على حساب الآخرين، وأن تعيد صياغة رؤيتها وأولوياتها لتكون فلسطينية بحتة، وللأسف هي لم تقترب حتى الآن من إحداث هذا التغير المحوري في مسارها، حيث إن حسابات حماس لا تزال تدور في فلك حساباتها الأنية والحسابات الإقليمية التي تخدم المصالح الإيرانية.

إذا لم يلتزم الجميع بهذه المراجعات الضرورية للذات بشكل عاجل وسريع، فالقضية الفلسطينية مصيرها العودة بعد أن تصمت نيران المدافع والبنادق إلى كونها قضية أمنية تتعلق بأمن إسرائيل مخلب الغرب في منطقة الشرق الأوسط، أي التجاهل وغض الأبصار واستمرار معاناة الشعب الفلسطيني المكلوم.

تابع مواقعنا