قراءة للموقف المصري من العدوان الإسرائيلي على غزة
مر الموقف المصري من الأزمة غير المسبوقة التي تشهدها الأراضي الفلسطينية بعدة مراحل على مدار الأشهر السبع الماضية، واستند هذا الموقف في مراحله المختلفة لعدة ثوابت لم يحيد عنها أبرزها:
- الحرص على إيجاد سبل لوقف الأعمال القتالية من خلال قيادة جهود الوساطة بالتعاون مع دولة قطر والولايات المتحدة الأمريكية.
- تحميل الجانب الإسرائيلي مسؤولية اندلاع الأزمة.
- رفض تصفية القضية الفلسطينية أو إيجاد بدائل لحل الدولتين على حدود 4 يونيو1967.
- التصدي لمخططات تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة وعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مصر أو الأردن أو أي مكان آخر.
- السعي الدائم لتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة لإغاثة المدنيين المتضررين من آثار العدوان.
هذه الثوابت التي لم تتغير على مدار 7 أشهر تنبع في الأساس من رافدين أساسيين، أولهما مقتضيات الأمن القومي المصري بما في ذلك الحفاظ على سيادة مصر الكاملة علي عموم أراضيها لا سيما شبه جزيرة سيناء، والرافد الثاني التزام مصر التاريخي والأخلاقي والإنساني حيال القضية الفلسطينية التي وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي بقضية القضايا، ليدلل على محوريتها بالنسبة لمصر دولًا وشعبًا.
أدانت مصر العدوان، وحرصت على إدخال المساعدات الإنسانية، وتحملت استفزازات ومزايدات الجانب الإسرائيلي، والتزمت بقيادة جهود إحلال هدنة إنسانية يتبعها وقف إطلاق نار دائم، وإبرام صفقة لتبادل الأسرى، ومن ثم الانخراط في مسار يعيد إحياء عملية السلام بهدف إقامة دولة فلسطينية على حدود يونيو 1967، وكان هذا الموقف محل تقدير لدى المجتمع الدولي لا سيما الدول العربية، والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين ونظريًا الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تمرر فرصة إلا وثمنت الدور المصري المسؤول حيال الأزمة المشتعلة في غزة.
وبالفعل أتت الجهود المصرية أكلها في نوفمبر الماضي عندما نجحت في إبرام هدنة مؤقتة بين فصائل المقاومة ودولة الاحتلال تم خلالها تبادل عدد محدود من الأسرى والمحتجزين، ولكن أبى التعنت الإسرائيلي أن يسمح بالبناء على هذه الجهود وأنهى الهدنة، وواصل حربه للشعواء التي أدت إلى استشهاد وإصابة نحو 120 ألف إنسان غالبيتهم من المدنيين العزل خاصة النساء والأطفال، ودُمرت بنية غزة التحتية ومنظومتها الصحية و70% من وحداتها السكنية، وتسببت في نزوح 90% من إجمالي عدد السكان في جريمة تتجاوز في جسامتها الجرائم ضد الإنسانية لتتحول لعملية إبادة جماعية متكاملة الأركان؛ الأمر الذي دفع جنوب إفريقيا بدعم من دول الجنوب العالمي للجوء لمحكمة العدل الدولية في مطلع العام الحالي، والمحكمة الأممية أصدرت حزمة من تدابير مؤقتة في فبراير تُلزم دولة الاحتلال بالتوقف عن ارتكاب عمليات القتل الجماعي في إدانة قانونية مبدأيه للسلوك الإسرائيلي الآثم، وكما هو متوقع لم تمتثل تل أبيب لأوامر المحكمة وشرعت في قتل نحو 11 ألف إنسان منذ صدور قرار المحكمة حتى اليوم غالبيتهم من المدنيين.
وفي ظل تفاقم الموقف بهذا الشكل لم تُمارس الولايات المتحدة أي ضغوط ملموسة لوقف البطش الإسرائيلي، وأدى تردد واشنطن في اتخاذ إجراء حاسم لوقف العدوان الإسرائيلي في كسر الأخيرة لكافة الخطوط الحمراء التي وضعتها الولايات المتحدة بخصوص رفح، وتحدت التحذيرات المصرية واجتاحت شرق المدينة المذكورة وقامت باحتلال الجانب الفلسطيني من المعبر في استفزاز واضح للقاهرة التي التزمت علي مدار 45 عامًا بسلامها البارد مع إسرائيل ولعبت دور رئيسي ومحوري في جهود الوساطة بين دولة الاحتلال وفصائل المقاومة.
بطبيعة الحال التصعيد الإسرائيلي في رفح حوّل التوتر القائم بين القاهرة وتل أبيب منذ اندلاع الحرب لأزمة كبيرة بين البلدين نقلت مصر من وضعيتها كوسيط نزيه وشفاف لتصبح أحد أطراف الأزمة، وأخذت مصر في اتخاذ خطوات فعالة لمواجهة الصلف الإسرائيلي، أبرزها رفض الاعتراف بمشروعية استيلاء إسرائيل على الجانب الفلسطيني لمعبر رفح، ورفضت إدخال المساعدات في ظل رفضه للانسحاب من هناك، كما أعلنت القاهرة انضمامها رسميًا لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بمحكمة العدل الدولية التي تتهم الأخيرة بانتهاك نصوص اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية.
وتحدثت مصادر إعلامية عربية وإسرائيلية ودولية عن إخطار مصر للولايات المتحدة بدراستها إمكانية تعطيل اتفاقية السلام مع إسرائيل في حال لم تنسحب من شرق رفح ومنطقة المعبر وتعود لطاولة المفاوضات بشكل جاد، كما أفصحت تلك المصادر أيضًا عن قيام مصر بإلغاء اجتماعات تنسيق أمني بين مسؤولي البلدين بشكل مفاجئ، وعن دراستها إمكانية تخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي لدى إسرائيل، وعن قيام القوات المسلحة المصرية بتعزيز تواجدها العسكري على الحدود الشرقية للبلاد تحسبًا لأي تطورات تمس بالسيادة الوطنية المصرية.
في ظل ما تم الإعلان عنه رسميًا وما تم ترديده على لسان مصادر مسؤولة في وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية، نجد أن موقف القاهرة الآن تحوّل للتصعيد المحسوب التدريجي مع الجانب الإسرائيلي بهدف الضغط عليه ليثنيه عن توسيع العملية في رفح مما قد يفاقم الأزمة الإنسانية الكارثية في قطاع غزة، ويشكل تهديد حقيقي للأمن القومي المصري ويخل بأمن واستقرار المنطقة، وهذه السياسية المصرية أيضًا تهدف على ما يبدو للضغط على الولايات المتحدة لتمارس دور مسؤول وفعال لإقناع إسرائيل بضرورة العدول عن التصعيد في غزة، والانخراط في محادثات الهدنة لوقف القتال ووضع رؤية لليوم التالي للحرب مقبولة لدى الطرف الفلسطيني بالشكل الذي يضمن إعادة الإعمار وعدم التهجير، وإعادة السلطة الفلسطينية للقطاع وتبادل الأسرى، والعودة لمسار تسوية سلمية دائمة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي مبني على أساس حل الدولتين وفقًا للضوابط التي وضعتها الشرعية الدولية لا سيما قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967 واتفاقيات أوسلو.
في حال لم تفعل ذلك الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، فهي تخاطر بوضع الأحداث المأساوية الجارية على مسار تصعيدي قد يبدد أكبر إنجاز استراتيجي للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وهو السلام المستقر بين مصر وإسرائيل علي مدار 4 عقود برعاية أمريكية متعددة الأبعاد.
في حال الوصول لهذه النقطة الخطيرة ستتحول منطقة الشرق الأوسط لبؤرة ملتهبة تؤجج حالة عدم الاستقرار والسيولة التي تسود العالم بسبب صراع القوى الكبرى وتداعياته الأمنية والاقتصادية، وهذا أمر بالتأكيد لا يريده أي طرف مسؤول في المنطقة أو العالم لاسيما واشنطن التي تعتبر السلام بين مصر وإسرائيل قاطرة لمسار السلام في المنطقة، ولا تريده دولة الاحتلال أيضًا التي حقق السلام مع مصر لها مكاسب تضمن أمنها واستمرار وجودها على المدى البعيد؛ ولكن في ظل هوس نتنياهو بتحقيق أهدافه الوهمية من عدوانه بلاده علي غزة، وظل عدم إدراك المكون اليميني المتطرف المهيمن على حكومته لخطورة خسارة تل أبيب لسلامها مع مصر، قد تذهب الأمور إلى ما لا يحمد عقباه.
في المحصلة الموقف المصري المسؤول والعاقل والشريف يسعى في مضمونه للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة بالتوازي مع ضمان بقاء القضية الفلسطينية وحماية الأمن القومي المصري، ولكن إذا اختلت هذه المعادلة ولم يعد من الاختيارات الصعبة مفرًا، فمصر لن تتردد في وضع أمنها القومي وسيادتها الكاملة على أراضيها ومصالحها العليا فوق أي اعتبار مهما كانت العواقب.