الجمعة 22 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الوطنية وتعزيز الانتماء

الجمعة 17/مايو/2024 - 06:30 م

قديما جدا لم تكن فكرة الدولة ذات النظام السياسي والقانوني بشكلها الحالي موجودة وكانت القبيلة هي السائدة، وإن كنا قرأنا عن بعض التجارب النادرة مع اختلاف كبير عما عليه الوضع الآن، وفي الغالب كانت تحكم التجمعات البشرية نفسها بعادات وتقاليد خاصة بها، لكنها غير ملزمة للأفراد بصورة تامة، كونهم لا يتمتعون بحقوق معينة تجعلهم يضطرون لقبول أية قيودا عليهم، وهنا تكون أفعال الأفراد مرتبطة فقط بقوتهم ومدى وعيهم الشخصي، ولكن مع منتصف القرن السابع عشر ظهر ما يسمى بنظرية العقد الاجتماعي.

وذلك العقد في الفلسفة الأخلاقية والسياسية عبارة عن نموذج ظهرت ملامحه في عصر التنوير، ويهتم عادة بمدى شرعية سلطة الدولة على الأفراد.

وتقوم نظرية العقد الاجتماعي على أن الأفراد يقبلون ضمنيا أو تصريحا بالتخلي عن بعض حرياتهم، ويخضعون لسلطة الحاكم، مقابل حماية بقية حقوقهم، من أمان وضمان لحياة كريمة لا تجعلهم في حالة قلقِ دائم، كون هناك من يدبر شؤونهم متمثلا في النظام السياسي، وبناء على هذا فإن العلاقة بين الحقوق الطبيعية والشرعية تعد من مباحث تلك النظرية، وقد أخذ المصطلح اسمه من كتاب "العقد الاجتماعي" للكاتب والفيلسوف جان جاك روسو، الذي ناقش فيه هذا المفهوم، وهنا أصبحت فكرة الوطن أكثر قوة وصلابة حيث ارتبط الفرد بمكان مولده وحياته بشكل تام.

و بناء على هذا فإن الوطن هو الأرض التي ينشأ عليها الإنسان، ويحمل هويتها، ويكتسب صفات شعبها ويعيش وفق عاداته وتقاليده، ومن هنا يتم بناء الوطنية بداخله والتي تتمثل في التعلق العاطفي، والولاء والانتساب لأمة محددة، أو منطقة جغرافية بصفة خاصة واستثنائية عن البلدان الأخرى، والشخص الوطني هو الذي يحب بلده ومن أجل حمايتها يمكن أن يبذل أغلى ما يملك، وبالطبع عليه أن يدعم سلطته ما دامت تصون مصالحه وتعمل لأجله.

ومع هذا فإنه يجب أن تكون مشاعر الوطنية والانتماء للأرض فطرية لا ترتبط بمصالح أو احتياج، وإنما تشبه المحبة للأب والأم بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي وطريقة حياتهم، سواء كانت مريحة تتوفر فيها كل ما يحتاجه المرء، أو صعبة وبها بعض المعاناة، فلا يمكن لإنسان نبيل الربط بين انتمائه لعائلته وما تحققه له من مصالح، وكذلك الأوطان.

ولكن في نفس الوقت يمكن أن يغضب بعض أفراد الأسرة إذا وجدوا أن هناك تمييزا لآخرين على حسابهم أو جورا وظلما تجاههم، مهما كانت درجة محبتهم لهذه العائلة ومدى ارتباطهم بها، وما يتمنوه لها من قوة وازدهار. فنحن في النهاية أمام نفس بشرية مليئة بالتعقيدات والغموض والتناقضات أيضا، وإذا ما قمنا بالقياس على الأوطان، فإن حالات الغضب تعبر عنها الشعوب بإبداء الاعتراض، وصولا للثورات والاحتجاجات ولا يمكن أن يتعارض ذلك مع فكرة الوطنية والانتماء، بل يكون في أوقات كثيرة خير تعبير عنها، طالما أنه ينطلق من أرضية وطنية خالصة بهدف الإصلاح لا الهدم، والأمثلة كثيرة في التاريخ.

أما ما يتعارض بشكل قاطع مع الوطنية هو أن يعيش المواطن بطريقة سلبية، وكأنه ضيف في هذه الأرض لا يعنيه ما يحدث حوله بحجة أنه غير مرتاح ويعاني معيشيا، فتتوقف الأوطان عن النمو لأن الروح لم تعد موجودة، ومهما كانت الدوافع أو الظروف المحيطة لا يوجد مبرر لفكرة أنا ومن بعدي الطوفان، فينصرف كل فرد إلى تحقيق احتياجاته الشخصية بعيدا عن المصلحة العليا للوطن، ومن ثم يحدث الفشل لا محالة مهما كانت الشعارات رنانة والمظاهر براقة ويخسر الجميع.

و لذلك أقول أن الوطنية الحقيقية توجد عند أعتاب البسطاء والفقراء، الذين لا يحصلون على امتيازات حياتية ومع ذلك نراهم شديدي الانتماء للوطن، ودائما على أتم الاستعداد للتضحية بأرواحهم من أجله ليس طمعا في شيء سوى أمانه وسلامه.

في المقابل نرى هؤلاء الذين يتغنون بالوطنية ليلا ونهارا ويبالغون في ذلك إلى حد المتاجرة والمزايدة، لأنهم يتقلدون المناصب العليا، ويتصدرون المشهد دائما، أو أنهم يحققون ثروات طائلة من خلال مزايا يتمتعون بها دون غيرهم، فغالبا تكون وطنيتهم محل شك، لأننا لا نضمن إذا تغيرت الأحوال يظلون بنفس ما يظهرونه أم ينقلبون تماما.

والحقيقة أنني هنا لا أتجنى على هؤلاء، ولكني أقول أن الوطنية مدفوعة الأجر في كثير من الأحيان تكون زائفة بينما تلك المجانية لا شك في صدقها وإخلاصها.

وهؤلاء الأوفياء لأوطانهم دائما يستحقون الاهتمام  والرعاية، والاحتواء الفعلي، وليس فقط في الأوراق والتقارير الإعلامية التي قد لا تنعكس على حياتهم عمليا، فالمواطن لن يصدق أو يشعر إلا بما يصل إليه بشكل واضح ومباشر، ويغير من ظروفه ومعيشته فعليا، وذلك قطعا يعزز مفهوم الانتماء ويرسخه لديه، في ظل كل ما يتعرض له اليوم من تشويش وتشكيك وتحريض، ممن لا يودون الخير له بكل تأكيد، لكنهم يريدون استغلاله لأغراض يحققون من خلالها مصالحهم الخاصة.

تابع مواقعنا