الغزو الثقافي واستخفاف الناس باللغة العربية
بعض موجهي اللغة العربية من أهم أسباب مهانة اللغة العربية واحتقارها واستخفاف الناس بها، هذا مقال تأخر كثيرًا عن حقه في الكتابة والنشر، بعد أن مكث طويلًا في تلافيف عقلي يطالب بحقه في مناقشة هذه القضية العويصة، ألا وهي (مهانة اللغة العربية على لسان أبنائها وتدني مكانتها بين اللغات).
وقد تأملت هذه القضية ردحًا طويلًا من الزمن، وأنا لا أكاد أفهم سر سخرية الأفلام والمسلسلات ووسائل الإعلام من اللغة العربية وقواعدها عامة، ومن مدرسيها على وجه الخصوص.. أيرجع ذلك إلى صعوبة قواعدها ودقة مفرداتها، أم إلى عجز المثقفين عن إتقانها -كتابة ونطقا- إتقانًا سليمًا، أم هو الغزو الثقافي الذي أجّج حربًا شعواء على الهوية العربية الإسلامية؟! وقد ظللت أراوح في الإجابة بين هذه الأسباب، تارة أرجح هذا، وتارة أرجح ذاك.
حتى مضت الأيام والسنون، وكبر أبنائي وبناتي، بعد أن حرصت حرصًا بالغًا على غرس حب العربية وآدابها في نفوسهم، وتلطفت بهم حتى أتقنوا القرآن قراءة وحفظًا، ثم خاضوا غمار دراسة اللغة العربية في المرحلة الابتدائية فكان الأمر على ما يرام إلا قليلًا، إذ وجدتهم يفضلون دراسة اللغة الإنجليزية على دراسة اللغة العربية، فقلت: لعل مرد ذلك إلى كثرة فروع مادة اللغة العربية وكثرة واجباتها مقارنة بالإنجليزية.
ولكني فوجئت بعد ذلك أنهم بمجرد ولوجهم إلى المرحلتين الإعدادية والثانوية، ينفرون من اللغة العربية نفورًا شديدًا، ويبغضوها بغضًا عنيفًا، ولا أخفيكم سرًا أنني صرت كذلك أنفر من (مادة) اللغة العربية كما ينفر منها أبنائي، وأصبحت أبغضها بغضًا أشد من بغضهم لها، أقول ذلك أنا أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بقسم اللغة العربية بآداب عين شمس، أنا الذي لم أنقطع يومًا واحدًا منذ أتقنت القراءة في صباي الباكر عن مطالعة الأدب العربي وحفظ عيونه، وتأمل نصوصه، ودراسة كتب النحو والصرف قديمها وحديثها.
أما سر ذلك التبدل العنيف في موقفي ومواقفهم من (مادة) اللغة العربية، فيتمثل في ذلك الاكتشاف الخطير الذي تجرعت مرارته سنة تلو أخرى، وأنا أستذكر لأبنائي (مادة) اللغة العربية.
فقد كنت أجهد نفسي معهم إجهادًا شديدًا وأجهدهم معي إجهادًا أشد في استذكار النصوص ودروس النحو والصرف، كي يحققوا مرادهم في التفوق والنجاح والتكريم، ولكني في كل عام كانت تأخذني الدهشة من نوعية بعض الأسئلة التي يصر بعض موجهي اللغة العربية على حشرها في الامتحانات افتخارًا بضيق عقولهم وتبجحًا بغباء مسلكهم، تلك الأسئلة التي لا قِبل للتلاميذ ولا للأساتذة أنفسهم بالإجابة عنها، إلا بالرجوع إلى معاجم اللغة العربية ومطولات كتب النحو والصرف، كالسؤال مثلًا عن مفرد (أرجاء)! هل - بالله عليكم- صادف أحدكم مفردًا لهذه الكلمة في نص قديم أو جديد؟! ثم لماذا يُسأل التلميذ عن مفردها أصلًا، هل سيستخدمه في كتابة نص إبداعي أو علمي؟!
وكذلك الحال مع تلك الأمثلة المصطنعة التي لا معنى لها حول (كان) التامة، رغم أمثلة (كان) التامة نادرة في العربية، أو التحذلق ببعض الصيغ الركيكة حول الأسماء الخمسة وأسماء الزمان والمكان وغيرها من دروس النحو.... دع عنك بالطبع سؤال الكشف في المعجم فهو جريمة مكتملة الأركان.
وكذلك فمن هذه الأسئلة اللوذعية، جمع (سدّ) أهو (سدود)، أم (أسداد)، أم كلاهما صحيح، وجمع (صدر) أهو (صدور) أم (أصدر) أم كلاهما صحيح.
وأنا أديم القراءة منذ ثلاثين عامًا في عيون الأدب العربي وشتى مجالات المعرفة، فلم أعثر في يوم من الأيام في نص قديم أو حديث على استعمال لكلمتي (أسداد) و(أصدر) اللتين نص عليهما المعجم الوسيط، فهل يفترض الموجه الجهبذ واضع السؤال أن الطفل في هذه المرحلة متمرس في أبواب الصرف خبير في جموع القلة والكثرة؟! لعله يحسب أن التلميذ يحفظ المعجم الوسيط عن ظهر قلب!!!
ولا أدري كيف يُفترض في تلميذ المرحلة الإعدادية أن يعرف هذه الجموع ولم يرد أي منها في نص من النصوص التي درسها، إنني أجزم جزمًا أن الموجه نفسه لا يستطيع أن يعلل مجيء الجمع على هذه الصيغة دون غيرها على وجه التحديد!
الحق أنني لا أدرى لهذا التعنت سببًا، فلماذا يرهق بعض الموجهين التلاميذ بهذه الأسئلة العجيبة التي لا تدل على تحصيل أو اجتهاد التي لن يجيب التلميذ عنها إلا خبط عشواء؟!
إن هذه الأسئلة تنفر التلميذ من اللغة العربية نفورًا شديدًا، وترسب في نفوس الطلاب حزنًا عميقًا، وتجعلهم يحتقرون العربية شيئًا فشيئًا، ويتخذونها مادة للفكاهة والتندر والسخرية، بعد أن حرمتهم تلكم الأسئلة الغبية الكاسدة من التكريم أو اللحاق ببغيتهم من التفوق. ولا شك أن أغلبهم ينظرون إلى هذه اللغة بوصفها لغة عشوائية، لا يستطيع الطالب التمكن منها مهما فعل أو اجتهد. وفي المقابل فإن دراسة اللغة الإنجليزية مثلا تتسم بالانضباط والمعيارية والدقة، فلا تعرف هذا العبث التعليمي المقيت.
ومن هنا فإنني أؤكد ما صدّرت به المقال، وهو أن السبب المحقق في مهانة اللغة العربية -من بين أسباب كثيرة- إنما هو بعض موجهي اللغة العربية، الذين يصرون على جعلها أضحوكة بين المواد الدراسية بتعنتهم وسوء صنيعهم، فيفسدون بذلك جهودًا جبارة تبذل لتقرب هذه اللغة الشريفة للناس، فلا يزدادون عنها إلا بعدًا بسبب هؤلاء الموجهين... وعلى الله قصد السبيل.