شيلة محافظ المركزي
مضى عامان تقريبا، منذ أن كتبت مقال "بين المركزي والصناعة"، والذي أعربت فيه عن تفاؤلي بتغيير محافظ البنك المركزي واختيار السيد حسن عبد الله في المنصب ليحمل مسئولية عظيمة وثقيلة للغاية خاصة لما في تركته من صعاب جمّة وظروف قاسية مهلهلة على مدار سنوات طويلة، وأكدت أن لديّ ثقة في شخصه وقدراته على إحداث فارق في السياسة النقدية التي عانت الكثير خلال عهد سابقه.
خلال الفترة الماضية، غلبت الظروف المربكة على المشهد وجرجرت البنك المركزي إلى مواجهات واهتمامات ليست في صلب دوره، إلى أن لاحت بوادر الاستقرار بتبعات صفقة رأس الحكمة والاتفاق مع صندوق النقد، بما وفر له فرصة للتدخل بشكل فعلي ومتخصص في الأزمة ويساهم بآلياته المتعارف عليها في توفير حالة الاستقرار للسوق أو على الأقل أن يخطو بشكل واضح في سبيلها.
ليس دفاعا عن الرجل أو هجوما عليه.. فهو مهما بلغت قدراته لن يكون "الساحر الشريف" الذي يمكنه حل الإشكاليات المتأصلة في الاقتصاد المصرية بين عشية وضحاها، لأنه في تقديري لو تعاقدنا -مجازا- مع جيروم باول رئيس البنك الفيدرالي نفسه ليتولى المسئولية لن يكون في مقدوره أن يفعل أكثر مما فعل عبد الله بأن يعافر بآلياته المتاحة دون حلول بهلوانية يمكنها الحسم مباشرة.
ويرجع ذلك لأسباب كثيرة أبرزها ما طرحه الاقتصادي العالمي د. محمود محيي الدين من أن "السياسة النقدية في الدولة النامية مشتقة بالأساس من السياسة المالية العامة، وأنه مهما أوتي البنك المركزي في أي دولة نامية من قوة، إذا ما انفلتت السياسة المالية يصعب عليه تدبير امره سواء في السيطرة على التضخم او تحقيق الاستقرار المالي".
كما أنه بالتضاد مع ما هو شائع.. دور المركزي من أصله ليس تحديد سعر الصرف لأن ذلك "مفترض" يحدده العرض والطلب، لكنه دوره الأساسي هو استهداف التضخم "الأسعار" عن طريق إدارة النقد، بجانب أدواره في تحقيق الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي وتخفيض البطالة، وذلك من خلال أدواته المتمثلة في عمليات السوق المفتوح وسياسة الخصم "أسعار إقتراض وإقراض البنوك" والاحتياطي القانوني.
الشاهد.. أن البنك المركزي قد فعّل أدواته جميعا في الآونة الاخيرة من رفع الاحتياطي الالزامي، وترك سعر صرف -حتى الآن- بلا قيود شديدة وورفع أسعار الفائدة، وأخيرا إتجه نحو عمليات السوق المفتوح، بتدخله موخرا لسحب السيولة لدى البنوك العاملة في السوق بقيمة 1.050 تريليون جنيه في العطاء الأسبوعي ضمن الودائع بعائد ثابت 27.75%، وهو ما يمثل خطوة حرجة لمواجهة السيولة المتزايدة في السوق والتي تمثل أحد أهم أسباب زيادة معدلات التضخم.
وبالنسبة لعمليات السوق المفتوح، فالبنك المركزي يقوم بها لتنظيم حجم الأموال الموجودة في السوق، حيث يشتري أدوات مالية لزيادة المعروض النقدي ويقوم بعدها بسحبها وتقليل هذا المعروض، وفي حالتنا يستهدف البنك المركزي ضبط السوق من خلال الـ"تشديد نقدي"، بمعنى أنه لكي يقلل السيولة فـ"بيربط" سيولة البنوك.
وهذا الإجراء يرتب تغييرا في حجم المال والائتمان المتاح في الاقتصاد، بما يؤثر على عوامل اقتصادية متعددة مثل الإنتاج وتكاليف السلع والخدمات وأيضا البطالة، ويمثل في تقديري التصرف الأمثل أو كما نقول "زي ما الكتاب بيقول"، خاصة وأن البنك المركزي بهذا النهج قد فعّل كل الأدوات المتاحة لديه لمواجهة التصخم.. أو على الأقل "نظريا".
لكن مدى كفاية هذه الإجراءات من عدمه يستوجب في البداية فهم ظاهرة الـ transmission mechanism أو آلية التحويل النقدي، وهي قياس مدى تأثير قرارات السياسة النقدية على الأسعار والأصول والظروف الاقتصادية العامة، خاصة وأن لا جدال حول أن السبب الرئيسي في تفحل معدلات التضخم يرجع إلى زيادة المعروض النقدي متأثرا بالانفلات المالي غير المسبوق منذ أواخر القرن التاسع عشر! اي ان التضخم المتأثر بجانب الطلب هو تضخم مدفوع بشكل أساسي بالإنفاق العام. وقد ترتب على ذلك توسع شديد في المعروض النقدي قد ان الاوان لأن ينحسر.
حسنا فعل "عبد الله" باستخدام ما هو متاح من أدوات وبإدارته للتدفقات النقدية الأجنبية الشحيحة خلال فترة كانت الأقسى في التاريخ الحديث وهو ما كفل انتظام جدول سداد اقساط الديون السيادية المستحقة خلال هذه الفترة العصيبة، لكن استقرار الأمر يستلزم ان يكون التضخم هو المرساة النقدية التي تستهدفها الدولة وهو أمر لن يقوم به المركزي منفردا، وعليه، فإن قدرة المركزي على إحداث الفارق تستوجب مسبقا استضياح مدى استعداد الحكومة "السياسة المالية"، لتقليل الانفاق العام المتزايد بل وغلق أرصدة الحكومة المفتوحة طرف المركزي، في ظل أن خفوت وتيرة الانفاق واستقلالية قرار المركزي هما وجهان لعملة الاستقرار الاقتصادي وهدوء الأسعار، أما ما دونهما فلا محال يمثل حرثا في الماء.