اقتصاديات الطاقة 2.. فريضة التخطيط وواقع التخبيط
طرحت في المقال السابق "اقتصاديات الطاقة 1"، أسباب أزمة انقطاع الكهرباء التي يواجهها المواطن حاليا والتي للأسف تتوغل في آثارها، خاصة مع تأخر تحرك الحكومة في آليات الحل والمواجهة للدرجة التي فاقمت من الأزمة وعظمت من القيمة المالية المطلوبة لحلحلتها.
وبشكل مبسط ودون الدخول في فنيّات -استعرضتها سابقا-، فالأزمة ترجع بشكل مباشر إلى عدم الإدارة الرشيدة لاقتصاديات الطاقة في الدولة بالشكل الذي تسبب في تسارع انتهاء دورات الفائض وطول فترة دورات العجز، بالطبع مع إضافة أزمة التخطيط والإدارة التي تطال كل شيء في الدولة ومن ضمنها ملف الكهرباء.
مثلا.. شحنات الغاز التي تعاقدت عليها الحكومة الأسبوع الماضي، يبلغ سعرها المتداول للترسية 13.4 دولار للوحدة (mmBTU) - بحسب s&p global ورويترز-، وهو سعر عالمي مرتفع خلال هذه الفترة من العام مقارنة بالربع الأول من العام الحالي -كان سعر الترسية في حدود 8 دولار بحسب المصادر ذاتها، ويحتوي السعر الجديد على علاوات بسبب الشراء الفوري والدفع الاجل.
أي أنه إذا كانت الحكومة قد تعاقدت على هذه الشحنات في أبريل الماضي على سبيل المثال، فكانت سوف تحصل عليها بنصف الثمن الذي سوف تدفعه الآن تقريبا أو كانت ستحصل على ضعف الكمية، كما أنها كانت سوف تتضمن وصول هذه الشحنات مع بداية فصل الصيف وهو ما كان سوف يقل من حدة الأزمة الآن ويخفض فترات الانقطاع.
الغريب أن هذه الأزمة كانت متوقعة بلا شك، ورغم ذلك لم تحرك الحكومة ساكنا في وقت مبكر وانتظرت تفاقمها ثم بدأت في اتخاذ خطوات لمواجهتها متأخرة للغاية، بما يجبرها الآن على دفع ضعف التكلفة خاصة مع الشراء الفوري، ويجعل المواطن يواجه الانقطاع لفترات طويلة، كان من الممكن تفاديها حال التعاقد مبكرا. لا سيما ان الحكومة قد تعاقدت في وقت سابق على سفينة التغويز FSRU والتي وصلت بالفعل مما يعني ان فكرة استيراد الغاز المسال كانت امرا منتهيا.
وبالتدقيق في الأرقام المعلنة تتضح المفارقة العجيبة، فإجمالي سعر الشحنات المتفق عليها تصل إلى 910 ملايين دولار، وهو ما يزيد عن قيمتها حال التعاقد عليها بأسعار شهر أبريل على سبيل المثال بحوالي 350 مليون دولار، وهو ما يقارب زيادة 17 مليار جنيه، في مثال واضح على سوء التدبر والتخطيط الذي تتسم به إدارة الملف ورغم ذلك يدفع الثمن المواطن وحده- في ملف الكهرباء وغيره.
وهذا الرقم الزائد ليس بهين على الإطلاق، ويقارب في قيمته حجم المأمول من تخفيض دعم رغيف الخبز على سبيل المثال، ففي في 29 مايو تحدث وزير التموين عن تحريك دعم الخبز بأن المواطن سيتحمل 16% فقط من قيمة الدعم الذي يبلغ 120 مليار سنويا، بهدف توفير 19 مليار جنيه من دعم العيش سنويا، بما يعني أن قيمة هذا التوفير خلال العام الحالي قد ضاع في فرق سعر شراء شحنات غاز في توقيت متأخر بجانب الأثر المجتمعي لانقطاعات التيار!.
الأدعى من هذا التخبط الواضح، هو حالة التضارب البارزة في تصريحات مسئولي الحكومة، فبمراجعة بيانات الطاقة من مصادر دولية ومحلية يتضح تمويع رقم بعينه وهو "رقم الاستهلاك"، والذي يتضارب ليس فقط بين المصادر والمسئولين بل عند المسئول ذاته الذي يعطي بيان متضارب في نفس الأسبوع وفي أوقات في ذات التصريح، وخاصة عند وزارة البترول التي تتسم بياناتها بعدم الوضوح.
لا أعلم إن كان هذا التخبط والتضارب عن قصد أم بدون، لكن بلا شك نحتاج إلى مكاشفة عن قيمة العجز بين الإنتاج والاستهلاك، على الأقل حتى تتضح مدى قدرة الشحنات المتعاقد عليها مؤخرا على سد هذه الفجوة، فحين يقول رئيس الوزراء سننفق مبلغ كذا يمكن ترجمة ذلك الرقم لكمية الغاز، لكن في ظل تمويع رقم الاستهلاك وتعمد خلط وحدات القياس يستحيل معرفة إمكانية سد العجز من عدمه.
على الأقل هذه المكافشة مطلوبة حتى ننهي حالة "المزاولة"، وتتضح قدرات الحكومة على مواجهة الأزمة، أما فقه حل الأزمات بشكل قطاعي أو الحديث عن إنهاء الأزمة خلال أسابيع، فلم يعد قابل للتصديق على الإطلاق ليس في عدم منطقتيه فقط ولكن أيضا في تسببه في حالة قلق رغم أن مقصده الطمئنة.
فالأمور ليست معضلة وبالتأكيد لدى أحد المعلومات الحقيقية، ويمكن ببساطة توضيح أرقام إنتاج الغاز المحلي، والكميات المستوردة ومصادرها، ثم أرقام الاستهلاك وتوزيعه، وقيمة العجز وآليات تدبيره، على الأقل حتى تكون آليات ووعود الحل قابلة للتنفيذ، لا أن يتم إجبار المحلّات على سبيل المثال على الإغلاق في وقت مبكر رغم أنها ليست عبء على الاستهلاك أو نمنع الغاز عن المصانع فتحدث أزمة في التصدير تنتقل آثارها لتوافر العملة.
فلا توجد حلول بهلوانية والحل المنطقي والسريع للأزمة الحالية يتلخص في سد العجز عن طريق الاستيراد، ولكن ذلك لا يعني عدم تكرار حدوث الازمة في أعوام قادمة، خاصة مع ضعف القدرة على ديمومة الاعتماد على هذا الحل، وتتعقد الأمور في ظل غياب كشوفات غاز مُعتبرة من شأنها تحسين وضع مصر في إنتاج الغاز للتحول للاكتفاء مرة أخرى، وهو أمر لن يمكن دون دفع مستحقات الأجنبية الشركات العاملة في هذا المجال.
لست قلقا من قدرتنا على الخروج من تلك الأزمة، فكما أوضحت هي مسألة تتعلق بأرقام سليمة ثم تنفيذ عالي الكفاءة لسد العجز بأقل تكلفة، لكن الغُصة الحقيقية تكمن في استمرار غياب فريضة "التخطيط السليم" والإدارة المستقرة وفكر الاستدامة في الأشياء، فلا يصح أن نكون دولة تعمل على حلول "آخر ثانية" لأن التابعات على 110 ملايين مواطن ليست هينة ولن تكون كذلك ما دام التخبط حاضرا والفريضة غائبة.