كتاب حياة أبي وجيله..!
كان أبي - رحمة الله عليه- رجلا صعيديا أصيلا منحوتا من طين وصخر هذه الأرض، وكأنه تمثال فرعوني نادر المثال، لكنه حمل مع قدرته العجيبة على التحمل دون شكوى، ومع صلابته الخارجية الظاهرة، رقة وحنانا لا مثيل لهما في باطنه.
كما كان أبي صاحب دمعة قريبة تأتي بكبرياء، وصمت في مواقف إنسانية مختلفة أبرزها؛ فقد أخ أو حبيب أو في حالات الوجد الديني والدعاء والقرب من الله وقراءة القرآن، أو عندما كان يتذكر قصص وحكايات وتضحيات رفاق عمره على جبهات القتال المختلفة منذ حرب اليمن حتى نصر أكتوبر العظيم، الذين عرفهم عن قرب وفرق بينهم الاستشهاد، أو فرقت بينهم دروب الحياة القاسية بعد الحرب.
وقد عاش أبي ومات دون أن يطلب من الله سوى الصحة والستر ورضاه، ودون أن يعرف شيئًا عما يطلقون عليه رفاهية الحياة وجودتها، فلم أره في حياتي حريصًا على متابعة التلفزيون فيما هو دون نشرات الأخبار، أو الاستماع إلى الغناء باستثناء صوت السيدة أم كلثوم، وصوت الشيخ أحمد العطواني وهو يشدو ببردة الإمام البوصيري في مدح رسولنا الكريم.
ولهذا فُوجئت به ذات يوم ونحن في سياق ما، كان الفنان الراحل حسن الأسمر يغني في أرجاءه بأغنيته الشهيرة كتاب حياتي يا عين، يسألني: مين دا اللي بيغني؟ فأخبرته باسمه، ثم أخذ أبي في الاستماع للأغنية، وسرح مع كلماتها، وقال لي: دا كتاب حياتي أنا.
وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أجد أبي فيها يشكو، في لحظة ضعف إنساني، من قسوة وصعوبة الحياة والتجارب التي عاشها، وفيما سوى ذلك، عاش أبي ومات وليس على لسانه إلا الشكر وحمد الله.
الآن أتذكر هذا الحوار، وأرى أن هذا لم يكن عنوان ومحتوى كتاب حياة أبي فقط، بل كتاب حياة معظم أبناء جيله من شرفاء مصر الذين قضوا شبابهم وأفضل سنوات حياتهم في ميادين القتال على الجبهة في حرب اليمن وحرب يونيو 1967 وحرب أكتوبر 1973، ثم قضوا ما تبقى لهم من عمر في الكفاح ومغالبة الحياة، بحثًا عن الرزق والستر والحياة الكريمة لأبنائهم.
كما أرى أيضًا أن أبي ورفاق عمره من أبناء هذا الجيل -الذين قدموا تضحيات عظيمة لهذا الوطن دون أن يطلبوا شيئًا- هم جميعًا بوجه ما حسن سلطان أبو العلا -الفنان نور الشريف- بطل فيلم سواق الأتوبيس من إخراج الراحل عاطف الطيب.. نعم هم حسن سلطان أبو العلا في صلابته ورجولته ونزاهته وتضحياته وهزائمه وانتصاراته، وفي صدمته في متغيرات الناس والواقع في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي حتى نهاية حياته.
وكم أتمنى أن يكونوا بعد رحيلهم، قد وجدوا في حياتهم الجديدة عند الله كتاب حياة أجمل وأطيب وأفضل من كتاب حياتهم السابقة، وأن يُجزيهم الله بعد حياة الكفاح والصبر والنزاهة في القول والعمل وفي خدمة وطنهم، خير الجزاء.