الوجود المقلوب بين الفلسفة والشعر
في نهاية سنوات دراستي الجامعية في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنيا، عاد إلى التدريس بالقسم بعد سنوات من الدراسة في المملكة المتحدة الراحل الدكتور وهبة طلعت أبو العلا، وتعرفت عليه بشكل إنساني وعلمي بعد أن قام بالتدريس للفرقة الرابعة التي كنت أحد طلابها.
كان الدكتور وهبة طلعت أبو العلا في تلك السنوات شابًا ممتلئًا بالطموح والأحلام والرغبة في التأثير والتغيير نحو الأفضل، كما كان على المستوى الإنساني شخصًا بسيطًا متواضعًا قريبًا من طلابه، ويسعى بكل ما يملك لتعليمهم وتثقيفهم وتغيير رؤيتهم ومفاهيمهم حول الحياة والمجتمع والفلسفة والدين والثقافة.
أما على المستوى الفكري، فقد عاد من سنوات الدراسة بالغرب وهو مفتون تمامًا بالقيم الغربية والحداثة الغربية والنموذج الحضاري الغربي، مع تصريحه دائمًا في سياقات مختلفة ببعض الشطحات الفكرية الصادمة المتعلقة بتقاليدنا الاجتماعية وميراثنا الديني والقيمي.
وبالتدريج بدأت تظهر على الدكتور وهبة طلعت بعد عودته من بعثته العلمية أعراض "الصدمة الحضارية" الناتجة على اتساع الهوة بين ما عاشه في المملكة المتحدة وما رآه من منظومة الفكر والقيم والإدارة الغربية، وبين الوضع العام المعرفي والأكاديمي في بلادنا، وهي الصدمة الحضارية ذاتها التي حدثت مع الدكتور إسماعيل بطل رواية "قنديل أم هاشم" للراحل الأستاذ يحيى حقي، وكانت سببًا في أزمته الوجودية والاجتماعية.
وبسبب تلك الصدمة الحضارية والأزمة المترتبة عليها، دخل الدكتور وهبة طلعت بعد ذلك في صدامات كثيرة مع إدارة القسم والكلية، خرج منها مهزومًا وناقمًا تمامًا على الأوضاع الأكاديمية والاجتماعية والثقافية في بلادنا، وما رآه فيها من تردي إنساني وعلمي وإداري وثقافي.
وبعد هذه الصدامات والمعارك صدر رحمة الله عليه عام 1996 كتابًا بعنوان "الوجود المقلوب.. رؤية فلسفية معاصرة"، كانت فكرته الأساسية تقول بأن كل ما هو حولنا الآن في الوجود والعالم من حولنا ليس حقيقيًا، وليس في موضعه الصحيح، وليس كما يبدو لنا، بل هو زائف مقلوب وفيه تدليس على الأبصار والعقول.
وبناء على ذلك، فإن كل مَن يسعى لفهم وجودنا وعالمنا وأحداثه على نحو صحيح، عليه أن يُدرك من البداية أن الأشياء والأحداث ليست في حقيقتها كما تبدو لنا، وعليه أن يقلبها هو بدوره لكي يراها على حقيقتها، ولكي يراها معدولة وليست مقلوبة.
بالطبع، سخر الكثيرون في ذلك الوقت من الكتاب وعنوانه وفكرته وصاحبه، وجعلوه مادة إضافية للتندر على شخص الراحل الدكتور وهبة طلعت أبو العلا، والتشكيك في جدارته وكفاءته الأكاديمية والفكرية، خاصة بعد تحولاته الفكرية المتعاقبة التي اتسمت - حقيقة - بطابع التناقض والحدية.
لكن للإنصاف وبعد رحيل الدكتور وهبة طلعت أبو العلا، ورحيل معظم خصومه الفكريين والأكاديميين الذين اصطدم معهم بسبب أفكاره وكتاباته ومواقفه، أظن أن فكرة كتاب "الوجود المقلوب" الذي كان عند صدوره موضعًا للتندر والسخرية، هي فكرة جديرة بالتأمل وآلية فكرية ممتازة لفهم ما يدور حولنا، بعد أن أثبتت لنا أحداث ومتغيرات العقود الأخيرة في العالم والمنطقة العربية ومصر أن الأشياء والأحداث بالفعل ليست في حقيقتها كما تبدو لنا.
والطريف أنني اكتشفت مؤخرًا بعد مرور كل تلك السنوات على صدور كتاب "الوجود المقلوب" أن ابن رشيق القيرواني المتوفى عام 456 ﻫجريًا - وهو واحد من أفضل بلغاء وأدباء العرب - كتب أبياتًا شعرية تحمل نفس أفكار الدكتور وهبة طلعت أبو العلا، وترى أن الوجود مقلوبًا أيضًا، وهي الأبيات التي يقول فيها:
أشقى لعقلك أن تكون أديبا
أو أن يرى فيك الورى تهذيبا
ما دمت مستويا ففعلك كله
عوج وإن أخطأت كنت مصيبا
كالنقش ليس يصح معنى ختمه
حتى يكون بناؤه مقلوبا.