الإثنين 23 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

جاي بعد إيه؟

الجمعة 09/أغسطس/2024 - 06:58 م

 من 8 سنين في محافظة أسيوط وتحديدًا في واحدة من المؤسسات الحكومية المعروفة هناك، كان بيشتغل المهندس محمد.ع.أ، اللي كان عمره وقتها 32 سنة.. وظيفة روتينية في معظم تفاصيلها واللي بيحكم مدى التزامك فيها هو توقيع الحضور والانصراف مش قدرتك على الإنجاز للأسف.. رغم إن المؤسسة ليها تعامل مباشر مع المواطنين بشكل يومي لكن كان فيه حالة من الغضب عند الناس بسبب التجاهل والطناش والتكاسل الموجود من الموظفين اللي قاعدين على مكاتب، وتعاملهم مع الشكاوى كان بينحصر في الردود المعتادة بتاعت "فوت علينا بكره"، و"أصل أستاذ فلان في أجازة تعالاله بعد أسبوع"، و"أنت مش شايفني مشغول قدامك يعني أقطع نفسي"، و"استنى لما أفطر الأول" وغيرها من الردود اللي بقت مع الوقت إفيهات أفلام.. لكن ورغم إن وضع الأنتخة ده كان ممكن يعجب أى موظف حكومي أصيل واخد على الترييح والقعدة لكن المهندس محمد وضعه كان مختلف.. محمد كان كتلة من النشاط والحيوية وعنده الرغبة دايمًا في تقديم شيء جديد حتى لو خارج إطار حدود وظيفته.. يعني إيه؟.. تيجي في باله فكرة جديدة لتخفيف ضغط المواطنين على شبابيك المؤسسة فيعمل نظام إليكتروني مربوط بموقع للمؤسسة يقدر الناس يقدموا شكوتهم عليه بدل ما ييجوا بنفسهم.. بعد كده النظام ده يبعت الشكاوي للموظفين بالتساوي بحيث إن كل واحد يبقى مسؤول عن الرد على عدد محدد يوميًا لا أقل ولا أكتر.. فكرة بنت ناس طبعًا.

 يقدم الفكرة لنائب المدير فيقرر ياخدها منه ويركنها في درج المكتب لإنه اعتبر موافقته على الفكرة هو إقرار منه بالموافقة إن الموظفين بتوعنا كسالى!.. يا عم طب ما هما كسالى فعلًا!. اتفضل يا أستاذ على مكتبك وهنبقى ننظر في فكرتك بعدين.. بعدها بكام شهر تقع عين محمد على بحث منشور في مجلة علمية أجنبية عن نوع جديد من المواسير اللي بتعتمد المؤسسة في الشغل بتاعها عليها بس الفرق إن المواسير دي موفرة عن الموجودة فعلًا، ولو تم استيرادها وتركيبها بدل الموجودة بالفعل هتكون التكلفة أقل على المؤسسة الحكومية من السعر اللي بتشتري بيه المواسير الحالية!.. يعمل دراسة شاملة كاملة فيها كل حاجة حتى الأسعار والشحن لكمية كبيرة ويقدمها لنائب المدير اللي يتعامل مع الأمر باستخفاف وتريقة ويستخدم جمل فيها تلميحات قاسية من نوعية "يعني أنت كده جبت الديب من ديله!، مواسير بنشتغل بيها من سنين السنين عايزنا نبدلها النهاردة ليه!، أكيد ليك مصلحة".. فـ محمد يحبط ويركن فكرته على جنب.. ويبطل؟.. لأ.. يفضل يفكر ويحلم، ويفكر ويحلم، ويفكر ويحلم وبعد كل حلم يوقعه الروتين على جدور رقبته ويفوقه!.

في مرة نائب المدير سأله: هو أنت تاعب نفسك أوي ليه كده!، مش مرتبك بينزل، وشغلانتك مرتاحة!، ليه بتوجع دماغك وعايز توجع دماغنا معاك؟.. الحقيقة إن ده كان سؤال كفيل إنه يخلي محمد يصرف نظر عن التفكير والاقتراحات ويكتفي بدوره كموظف بيمضي حضور وانصراف وخلاص وهو عمل كده فعلًا.. ممكن ييجي في بالك طب ليه "محمد" ماكنش بيطلع للمدير بشكل مباشر يعرض عليه أفكاره؟.. في الأماكن اللي زى دي بيكون نائب المدير هو الكل في الكل خصوصًا مع قُرب طلوع المدير على المعاش اللي بيكون بيقضي اللي باقي من أيامه الوظيفية في توزيع الهزار والضحك والمجاملات على اللي حواليه بالتالي فالإنجاز مش بيكون عن طريق غير طريق النائب.

 يستسلم محمد للوضع الراهن لكن حماسته تغلبه كالعادة لإن اللي فيه طبع مش بيغيره.. أخد أصعب قرار ممكن حد في الدنيا ياخده.. قدم استقالته.. أنت مجنون، هو فيه حد لاقي وظيفة وكمان في الحكومة، أنت فيه حد عامل لك عمل أكيد، يا ابني استعيذ من الشيطان وفوق.. كل الجمل دي سمع زيها وأصعب من أهله وأصدقائه ومن كل اللي حواليه.. صحيح جايز يكون عندهم حق خصوصًا إننا بنتكلم في الفترة اللي بدأت فيها هوجة فيروس كورونا في نص سنة 2020، وفي عز فترة الحظر لكنه وفي نفس الوقت حس في لحظة ما إن ده القرار الأنسب اللي هيكون مريحه هو.. أنا راجل عندي أفكار أكبر من مكان وجودي ومن العقليات اللي حواليا.. قدامي طريق من اتنين.. يا إما استسلم وأكمل كموظف، يا إما أقول لأ وأحاول أنفذ ولو حاجة من اللي بحلم بيها.. وهو اختار الخيار التاني بمنتهى الشجاعة.. أخد شوية فلوس كان شايلهم على جنب وعمل مكتب صغير للاستيراد والتصدير.. هتصدر إيه وهتستورد إيه يا عم دا العالم كله مقفل بسبب كورونا.. مش هعمل شغل دلوقتي لكن هكون مستعد أول ما الدنيا تفتح أكون جاهز.

 ظبط ورق شركته إنه يستورد المواسير الحديثة الموفرة القوية اللي كان قدم فكرة عنها لشغله في الحكومة ورفضوها.. بمجرد ما اتفتح العالم من تاني ورجعت حركة البيع والشراء بعت جاب طلبية من برة!.. وصلت وباعها لتجار التجزئة في مصر، وبدأت الناس تاخد بالها من المواسير الجديدة اللي سعرها أرخص وفي نفس الوقت جودتها أعلى!.. شوية بشوية بعت يجيب كميات أكبر بكتير.. باعها كلها برضه.. شوية تاني سافر عشان يوقع مع الشركة الأجنبية برة عقد إنه يكون الوكيل الوحيد والحصري ليهم في مصر وشمال إفريقيا!.. بالتالي بقى أي حد عايز يجيب المواسير دي عليه وعلى شركة المهندس محمد.ع.أ.. الشغل كبر والحال اتغير 180 درجة وبقى المهندس محمد واحد من أنجح أصحاب المشاريع خلال آخر 3 سنين.. لحد من 6 شهور فاتوا بس!.. جاله مكالمة من مؤسسة حكومية مصرية طلبوا منه إنهم عايزين يقعدوا معاه بخصوص شغل.. آه زي ما جه في بالك كدا بالظبط.. هي نفسها المؤسسة اللي كان بيشتغل فيها.

 خد التقيلة كمان.. نائب المدير اللي بقى هو المدير حاليًا هو اللي اتصل بيه وكلمه بمنتهى الود إنهم عايزين يقعدوا معاه عشان يوقعوا على اتفاقية شراء لكميات كبيرة من المواسير دي.. اتقابلوا فعلًا والمدير تعامل كإنه مش فاكر عن محمد غير إنه كان بيشتغل معاهم وبس!.. لا فاكر زحلقته له ولأفكاره لما كان بيعرضها عليه، ولا فاكر التريقة بتاعته عليه، ولا فاكر أى شيء.. أو عامل مش فاكر أي شيء.. طيب تمام اتفضل يا فندم خير؟.. كنا عايزين نشتري منك كمية ضخمة لكل اللي بتستورده من المواسير.. يا سلام!.. من عيني.. طيب عايزينك بقى تعمل لنا تخفيض بما إننا هنشتري كمية.. رد محمد بسرعة: ولا جنيه واحد، السعر بتاعي أصلًا مخفض لوحده.. المدير حاول يمين وشمال يقلل من قيمة الصفقة بس محمد فضل مصمم على موقفه.. والشيء المضحك إن المدير اللي كان بيفطس أى فكرة لـ محمد أيام ما كان نائب كان بيستخدم خلال محاولاته للضغط عليه عشان يقلل السعر جمل من نوعية "التخفيض ده عشان مصر مش عشان حد"، و"بلدك عايزاك تقف جنبها".. يا سلام تاني!.. دلوقتي بقت تهمك مصلحة مصر.. أعتقد لو أنت عزيزي القارئ مكان محمد كنت هتفضل مصمم على موقفك لكن اللي حصل إن الراجل ولإنه شخص محترم وافق على تخفيض قيمة الصفقة عشان بلده، واكتفى بالإلحاح اللي كان عليه المدير، واكتفى بإنه رجع للمكان تاني منتصر بعد التجاهل والإهانة اللي حصلوا معاه من كذا سنة، واكتفى كمان إنه طلب طلب تاني وصمم على تنفيذه وهما أطاعوه فيه.. إيه الطلب؟.. يكون لـ محمد مكتب في المؤسسة دي لاستقبال الأفكار الجديدة والمختلفة من شباب المهندسين اللي في المكان، أو أى حد من برة يحب يعرض فكرة من خارج الصندوق ويكون لـ محمد من السلطة إداريًا إنه يوافق عليها ورأيه يؤخذ به.. الطلب غريب ومحتاج موافقة من الوزير المسؤول عن المكان نفسه مش مجرد المدير، وبالفعل بيتم عرض الأمر على الوزير اللي بيوافق فورًا لما بيعرف إن اللي طلب الطلب ده شاب مصري ناجح من دون طبعًا ما يكون عنده علم بكل العك اللي حصل قبل كده.. رغبة محمد كانت إنه يجنب أى شاب عنده فكرة أو حلم إنه يتكرر معاه اللي حصل معاه من سنين.. ودلوقتي؟.. محمد له مكتب في نفس المكان اللي شِبه انطرد منه بس مع فرق إنه رجل أعمال ناجح وعامل صفقة كبيرة وكل اللي استهانوا بيه امبارح هما أكتر ناس بيقدروه النهاردة ومش كده وبس.. ده كمان أوجد لنفسه الطريقة اللي يقدر يخدم بيها الشباب.

أوقات غشومية عدم قدرتك على التقدير الحقيقي للي حواليك مع ضبابية تقييمك ليهم بشكل صحيح بيخليك تضيع من إيدك ناس زى الدهب، وترجع تندم عليهم في وقت مينفعش فيه الندم.. حد معاك وجنبك ويتمنالك الرضا ترضى ومش عايز منك أي مصلحة شخصية غير إنك تكون بخير وبس يبقى ليه النمردة وقلة الأصل والتدوير على البعيد اللي مش شبهك!.. مفيش أي ضامن لاستمرار شخص نقي في دايرتك لو ماحسش بالأمان وبالتبادل وبالتقدير للي بيقدمه ليك عن طيب خاطر.. هتيجي عليه لحظة هيلم نفسه بمشاعره بعطائه بجدعنته وهيسيبك وحدك للدنيا اللي فضلتها عليه، ووقتها إبقى خليها تنفعك.. حس بقيمة النعمة قبل زوالها، وقبل ما تجري وراها فتقول لك وهي مستغنية ودون ما تبص عليك: "جاي بعد إيه؟".

تابع مواقعنا