تأملات في أولمبياد باريس 2
طرحت في المقال السابق، أهمية التراكم البشري وتأصيل الثقافة الرياضية في أذهان النشء والمجتمع، فهي من أسس إنجاح المنظومة الرياضية وتأهيلها للمنافسة العالمية، وهذا الأمر له شقان أوله تقبل المجتمع وتشجعه لبعض الرياضات وثانيه القصد والتخطيط السليم من قبل القائمين على المنظومة.
وبالنسبة للشق الأول في مصر، نشهد تطبيقات محددة لهذا النوع من التراكم الرياضي مثل التفوق المصري في رياضة الإسكواش، والتي أعلنت اللجنة الأوليمبية مؤخرًا عودتها لدورة الألعاب المزمع إقامتها في لوس أنجلوس 2028.
وقد حاولت منصة انتربرايز، في تقرير لها عام 2022، الإجابة عن سر هيمنة مصر على الإسكواش، مستعرضة تاريخ دخول اللعبة مصر خلال فترة الاحتلال البريطاني وصولًا إلى سيطرة لاعبيها على حلبة الإسكواش الدولية منذ عقود، لدرجة أن سبعة من أصل أفضل عشرة لاعبين في فئة اللاعبين الرجال بالاتحاد الدولي لمحترفي الإسكواش مصريين، وكذا خمسة من بين أفضل عشرة لاعبات مصريات أيضا، ثلاثة منهن تتصدرن المراكز الثلاثة الأولى.
حسب التقرير فالإرث والمكانة، الذي تنعم به اللعبة في مصر هو السبب في هيمنتها، خاصة مع القدر الكبير للاعبي الإسكواش المميزين هنا وهو ما يجذب أجيال جيدة لممارستها وتناقل الخبرات من خلال تأهيلهم بشكل فني على أعلى مستوى وأيضا تشجيع الأسر.
والمناخ الحاضن للتراكم يحتاج للتنظيم بجانب فكرة الإشعال كما تحدثت سابقًا، وهذا التنظيم يتأتى من خلال شبكة ترعى مصالح الجميع، وتعلي مبادئ الإدارة السليم والتخطيط الجيد والنزاهة أيضا.
ومثل كل شيء، فالرياضة ترتكن لشبكات من المصالح، وهي -مصالح- كلمة ليست شيطانية لو كانت المنظومة تكفل التكافؤ والمكسب المادي والمعنوي للجميع مع تحقيق الهدف الأسمى وهو المناخ الذي يكفل التفوق الرياضي.
والمتتبع للمنظومة الرياضية المصرية والاتحادات يدرك بسهولة وجود شبكات مصالح معقدة تسيطر بشكل كبير على الاتحادات بشكل يعزز من المصالح الشخصية قبل المنجز الرياضي، وهو ما قد تناولته على مدار سنوات في مجلس نواب ٢٠١٥ من تجاوزات اللجنة الأولمبية بقيادة رئيسها السابق هشام حطب إلى المخالفات الصارخة في الاتحادات.
فيكف يتولد هذا التراكم الذي يطلبه النجاح في ظل وجود المصالح الضيقة بشكلها الحالي، مثلا عندما يعين رئيس اتحاد اخاه مدربا وآخر يترك اختيار الفرق التي تمثل مصر دوليا بيد زوجته.. أهذا من الممكن أن يخلق مناخ مثالي يحقق الإنجاز أم أن نتيجته الطبيعة الإخفاق والإحباط.
وبينما جاء رحيل حطب منذ بضعة أشهر فقط، تصور البعض أن الأمور سوف تتحسن لكن فاتورة الإصلاح مكلفة وتتطلب وقتا خاصة وأن إرث الماضي في اللجنة الأولمبية ثقيل للغاية تحوم حوله شبهات كثيرة بداية من الوساطة غير المنصفة وصولًا إلى الفساد المالي، وعليه فإن تطور الموقف نحو الأفضل لن يتم بين عشية وضحاها.
وهنا أحيلك - عزيزي القارئ - إلى ما نشرته السباحة المصرية فريدة عثمان عبر منصات السوشيال ميديا للكشف عن أسباب عدم مشاركتها في أولمبياد باريس 2024، وهو ما يكشف الكارثة الحقيقية والأصل في تدهور المنظومة عندنا في أغلب الألعاب.
فرغم قدراتها التي تؤهلها للمشاركة في الأولمبياد وتحقيق إنجاز، تسببت المنظومة غير المؤهلة في عدم مشاركتها سواء بالتوجيه غير السليم أو الأخطاء الإدارية أو حتى عدم فهم المراسلات الأجنبية وقواعد التأهل المستقرة.
وانتقالًا إلى المشهد الحالي بعد ما تم في أولمبياد باريس، فالجدل الدائر في مصر يرتكز بشكل أساسي على ربط الانجاز الرياضي بالإنفاق الحكومي، حيث يرى البعض أن هناك عدم منطقية في إنفاق الدولة ما يزيد عن مليار جنيه لتحصل على ثلاث ميداليات فقط.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فعلى الرغم من أهمية التمويل إلا أن هذا التمويل الحكومي ليس العنصر الأهم في نجاح المنظومة الرياضية، وهو ما يتفق معه الباحثان كاميلا بروكيت، وهانز ويستربيك من جامعة فيكتوريا في أستراليا، حيث خلصا إلى أن تلقي المنظمات الرياضية الوطنية أموالًا لتطوير الرياضة لا تترجم تلقائيًا إلى نجاح، فهي تتطلب وقتا وتواصل الاهتمام.
إذن.. التمويل مهم لكنه ليس وحده كفيل بالنجاح، وهناك إمكانية لخلق بدائل تمويلية كتلك التي في الولايات المتحدة مثلا، حيث لا يتلقى فيها الرياضيون الأولمبيون أي تمويل حكومي، وبدلًا من ذلك، تعتمد اللجنة الأولمبية الأمريكية حصريًا على الدخل الناتج عن بيع حقوق البث التليفزيوني ومن الشركات الراعية.
وإذا كانت الحكومة تنفق كما في حال مصر والعديد من الدول، فإن هذا الإنفاق يجب أن يرتب التزام وهو الأمر الذي أشار إليه وزير الرياضة الأسترالي السابق دون فاريل، حين قال إن مفهوم الفوز هو أمر حقيقي وحين تطلب المنظومة الرياضية أموال دافعي الضرائب، فيجب أن يكون هناك التزام بالنجاح.
ولكن بصرف النظر عن فكرة الالتزام بالنتائج ليكون هناك عائد على الإنفاق فإن الموضوع كما أسلفنا ليس إنفاقا فحسب.
وفي ورقة بحثية بعنوان مقارنة دولية لسياسات الرياضة في 15 دولة، قامت فيرلي دي بوشر بدراسة العوامل التي تؤدي إلى النجاح الرياضي الدولي، حيث كشفت الدراسة أن النجاح الرياضي هو نتيجة لعملية التخطيط الاستراتيجي حيث يجب أن تستثمر الدول في مزيج من الركائز، أهمها توفير التدريب وأنظمة تحديد المواهب وتطويرها.
لذلك فرغم الجدل الدائر والتراشقات التي آثارها بعض اللاعبين عن عدم وجود التمويل الكافي في فترة الإعداد، فالأمر حتما لا يتعلق فقط بفترة الإعداد والإنفاق الذي يحدث خلالها، لكنه في الأساس يرتكز إلى إدارة المنظومة بشكلها الأوسع.
وعليه، فالنجاح ليس مرتبط بالتمويل أو بقدرة اللاعب فقط بل يتطلب إداريات سليمة يشرف عليها مؤهلين بعيدًا عن المصالح والوساطة التي تفسد كل شيء، ثم تأتي باقي العناصر في ترتيب الفاعلية لاحقا.
وفي حين تدافع الاتحادات الرياضية في مصر عن اختيارات الرياضيين الذين مثلوا مصر في أولمبياد باريس، فهم -حسب المدافعين- تأهلوا عن طريق مشاركات قارية متميزة، وهو ما يطرح النقطة التالية عن فكرة تحديد المواهب وآلية التأهل وإلى أي مدى تكفل القدرة على تحقيق النجاح، وهو ما سوف أتناوله لاحقا.