أنسام النجار تكتب قصة قصيرة بعنوان: خلينا نتكلم تاني
كنت أقف نباطشية في ليلة السبت.. يوم شديد الحرارة..غرفة العناية المركزة.. مستشفى الأورام، أشعر بإجهاد شديد، الحالة التي أتت بالأمس عنيدة، لا يريد الالتزام بالمحاليل التي تم حقنها بيديه، يزيل دوما جهاز التنفس من على أنفه.
اقترب الطبيب منه ثم ناداني إزاي محدش واخد باله، نصف جسده متدلي من على الفراش.
قمت ومن خلال مساعدة زميل لي بإعادته إلى السرير في الوقت الذي قرر فيه الطبيب ربط يديه مرة أخرى.
بعدما انتهى منه.. اقترب مني أنا وزميل آخر متبقي له أيام قليله، وأردف: محدش يفك إيده تانى، قاطعته: والله يا دكتور ده هو...
أشار لي أن أصمت ثم خرج..
مر بعض الوقت وأتى موعد الزيارة..
دخلت امرأة في الثلاثينات بيضاء متوسطة الطول ومعها امرأة أخرى تشبهها، ترتديان ملابس سوداء.
وعندما التفتت إحداهن..عرفتها..
كانت زميلتي في المدرسة الإعدادية والثانوية بالقرية التي نشأت بها..أه إنها نور..أنا أعرفها..
اقتربت بهدوء منها..
كانت تنظر للمريض من أمام الستائر وتبكي هى ومن معها: بابا طمنا عليك يا حبيبي.
كنت أراقب المشهد..
المريض نائم وهن يتحدثن إليه بصوت منكسر يائس..
لم يستيقظ، لم يفتح عيناه..
كان غارقا تماما في آلامه وصمته، وبعض همهمات..
نداء متكرر لابنه: يا أحمد.. كما علمت أصغر الأبناء..وأقربهم..
الابن الذى كان واقفا طوال الليل في الشارع أمام المشفى..كان رافضا رؤية والده..
احتضنت زميلة الدراسة التي تذكرتني وترجتني أن أعتني بوالدها..
مرت ساعات..
أتت امرأة أخرى في نفس العمر أو أكبر لا أدري..
مظهرها لا يشبه أهل بلدتنا..
طلبت من خلال رجل قريب للمريض أن تدخل لزيارته..
صحيح أن العناية المركزة عندنا لها مواعيد محددة..
لكننا نرأف بحال المودعيين..
كانت هادئة متزنة، عيناها تبحثان في المكان..
أشرت لها أين هو المريض الذى أتت إليه..
أزاحت الستار بهدوء..
اقتربت من سريره ووضعت يدها على يده الهزيلة وتحسست الجراح الصغيرة التى تركتها الأربطة..
عمي..
ألف سلامة يا عمي.
مسحت على رأسه.
كنت أراقب المشهد فى صمت تام..
فتح المريض عينيه ودار بهما حولها، كأنه لا يراها..
وضعت يدها تجاه قلبه وابتسمت وعينيها تتساقط منهما الدموع، علت وجهها ابتسامة خفيفة: عمي، سلامتك.
انتبه لها ثم إبتسم، وإستجمع شتات عقله، كأنه يستحضر شيئا من الماضي..
قالها أنا عاذرك.. أنتي الوحيدة اللي عاذرك.
ربتت على يديه ورفعتها كأنها تشفق من ثقل اليد داخل الرباط المحكم، فتعلقها قليلا لأعلى..
رددكنا لازم نتكلم ولو عشر دقائق.
ردت بابتسامة وسط دموع غزيرة: هنتكلم يا عمى.
رد قائلا: أنتي كبيرة والباقي قش.
لازم نتكلم
كان يبتسم لها وهي تقبل رأسه
تدخلت لأن الخمس دقائق مرت: من فضلك الزيارة خلصت.
ردت: لو سمحتى أنا جاية من بعيد.
الطبيب قد يمر بأي لحظة
لو سمحت الزيارة خلصت.
اقتربت المرأة من المريض واحتضنته وهى تبكي بشدة.
مع السلامة يا عمي.
تدخلت وسحبتها من فوقه..
رد عليها: لازم نتكلم تاني.
بعد أيام كنت في واجب العزاء بقريتنا..
كان البيت يفصله شارع صغير عن المقابر..
لقد اعتادوا دفن الموتى قرب الأهل..
جلست بين النساء فقد أصبح الرجال، يذهبون بالميت لدفنه بينما تظل النساء بالبيت وكن يرددن بأن الصراخ يعذب الميت.
والبكاء أيضا يعذبه.
وأن كل دمعة تسقط يتألم بسببها..
رأيت السيدة التي زارت المريض وحدها في آخر السرادق..
تجاه الشارع الذى يوصل بالمقابر..
أنا من أهل هذه القرية بالأساس وقد غادرتها بعد زواجى، كنت أعرف الجميع تقريبا..
أثارنى فضولي أن أسأل إحدى النساء عن قصة هذه السيدة التى تجلس هناك ولا تشبه أهل قريتنا..
ردت: دي تبقي بنت أخو الحاج عبد المجيد، أخوه أحمد اللي مات صغير وساب ولاده أكبرهم دى وكانت يا دوب خمس سنين.
بس هم مكنوش عايشين هنا.. دول عايشين فى إسكندرية.
الناس في قريتنا يعرفون أدق التفاصيل..
يعرفون أمورا عنك لا تعلمها أنت ربما..
مرت ساعة تقريبا بعد صلاة العصر..
لقد وجدتها تخرج من بيت الحاج عبد المجيد وفي يدها صورة..
كانت تجلس وهي فوق رجلها..
إنها صورة لطفلة مع أبيها..
تذكرت أني كنت أرى هذه الصورة فى بيت زميلتي..
اااه..
هي نفسها..
سمعت امرأة كبيرة في العمر جالسة إلى جواري على حصيرة.. تتحدث لأخرى: ليلى طلبت تاخد صورتها من أم نور.. صورتها هي وأبوها.
قالت لها: خلاص عمي مات ومبقاش حد محتاجها أكثر مني.
دى فضلت تستأذن تاخدها.
انتبهت أن السيدة الغريبة وقفت إلى جوار نور زميلتى الابنة الكبرى للحاج عبد المجيد..
تهامسا معا ثم مسكت نور يدها ومشيا معا نفس الطريق الذى يوصل إلى المقابر..
كنت مغادرة فى نفس اللحظة، كانت كلتاهما أمامى..
لقد سقط شيء من السيدة الغريبة.. أسرعت لالتقاطه واضطررت أن ألحق بهما داخل المقابر.
كانت نور تشير تجاه غروب الشمس..
لقد كان المكان خاليا تماما..
وتشير للقبر والطريق..
كنت أستطيع سماع الكلمات..
نور: سامحي بابا يا ليلى.
بكت ليلى بشدة..
اقتربت من القبر..
سألت ليلى أين هو أبي..
بكت نور: نفس القبر.
وضعت ليلى يدها على القبر: كان بيحبه.
طلبت نور من ليلى أن تكف عن البكاء وتقرأ بعض الآيات كي لا يتعذب الموتى..
ربتت ليلى على كتف نور..
شكرا على الصورة.
نظرت لها نور فى هدوء..
خلينا نتكلم دايما..
هزت ليلى رأسها عندما كنت أقترب منها لأعطيها الشيء الذى سقط منها..
أخذته مني، ثم مضت فى الاتجاه الآخر، تلتفتت مرة واحدة لتلقي نظرة على القبر..
ثم رحلت..