نجيب محفوظ وأزمة الثقافة في مصر
لم يكن الأستاذ نجيب محفوظ - الذي مرت علينا في نهاية الشهر الماضي الذكرى الثامنة عشرة لرحيله - روائيًا عظيمًا فقط، بل مثقف مصريًا من الطراز الأول، عاش عصره وتحولاته بفهم فلسفي عميق وقدرة على الرصد والتحليل والنقد، ورأى ببصيرة نافذة مشكلات الإنسان المصري الروحية والعقلية والسياسية والاجتماعية في القرن العشرين، وقدمها على نحو غير مباشر عبر أعماله وشخصياته الروائية المختلفة، التي صارت في أغلبها شخصيات مفهومية تُعبر عن أفكار وتناقضات ومشكلات وأحلام وآمال وانتصارات وهزائم المجتمع المصري والإنسان المصري في القرن العشرين.
وبعيدًا عن أعمال نجيب محفوظ الروائية، فقد كان للأستاذ رأي مباشر حول أزمة الثقافة المصرية، وهي الأزمة العميقة التي لم يختلف أحد على وجودها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، والتي دعت الراحل الدكتور يوسف إدريس إلى كتابة مقاله الشهير المثير للجدل "أهمية أن نتثقف يا ناس" بجريدة الأهرام في يوليو 1984، الذي تنبئ فيه بأننا "سوف نتحول إلى مجتمع جاهل وإن كان بعضه بالشهادة متعلمًا. مجتمع غير واعٍ أو مدرك، أي غير مثقف. مجتمع ليس له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم، وتدافع عنها، وتدعو إليها. مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلامًا وخمولًا من السماء الملبدة بالغيوم". كما حاول يوسف إدريس في مقاله تشخيص أسباب ومظاهر وتداعيات أزمة الثقافة المصرية، وكيفية مواجهتها وحلها حتى لا تتحقق نبوءته الموجعة. لكن هذا المقال اتسم بحدة شديدة تلائم طبيعة وشخصية يوسف إدريس ذاته، مما أثار جدلًا كبيرًا في حينه وغضبًا من مؤسسة الثقافة الرسمية وعلى رأسها وزير الثقافة في ذلك الوقت الراحل الدكتور عبد الحميد رضوان.
وعلى العكس من يوسف إدريس جاء حديث الراحل نجيب محفوظ حول أزمة الثقافة في مصر في نفس التوقيت الزمني وهو بداية ثمانينيات القرن الماض، لكنه اتسم بالهدوء والرؤية غير الصدامية على نحو يتناسب أيضًا مع طبيعة وشخصية نجيب محفوظ ذاته. وقد جاء هذا الحديث في البرنامج الإذاعي الشهير "شاهد على العصر" الذي كان يقدمه الإذاعي الكبير عمر بطيشة على أثير البرنامج العام، وفيه أقر نجيب محفوظ بوجود أزمة ثقافية في مصر، لكنه رآها جزءًا من أزمة الثقافة العالمية التي تغيرت فيه وسائل الثقافة من الكلمة المقروءة إلى وسائل التواصل المسموعة والمُشاهدة، ومعها تحول القراء إلى مستمعين ومشاهدين، والمُشاهدة تُراعي الإمتاع والتسلية أكثر من الجدية، لأن طبيعة العرض الإذاعي والتلفزيوني تقتضي ذلك.
لكنه الأستاذ نجيب محفوظ عاد واستدرك وقال إن الأزمة الثقافية العالمية جاءت لنا ونحن في حالة ثقافية ومعرفية تختلف عن أوروبا المُتحصنة بمناعة معرفية وثقافية راسخة نتيجة رقي وجودة التعليم، كما أنهم في أوربا استطاعوا في نفس الوقت ونتيجة رقيهم المعرفي والثقافي خلق أدب إذاعي وتليفزيوني راقٍ يُعلم ويثقف.
في حين أننا في مصر لم نفعل ذلك لانعدام المناعة المعرفية والثقافية لدينا بسبب أخطاء التربية والتعليم وتراجع مستواهما في العقود الأخيرة؛ وهي الأخطاء التي أخرجت أجيالًا لا تُحب القراءة، أجيالًا ليست من عشاق المعرفة والثقافة الرصينة الجادة، أجيالًا تُريد التسلية فقط وليس الثقافة والمعرفة.
كما أرجع أيضًا الراحل نجيب محفوظ ضعف المناعة الثقافية والمعرفية عند المصريين لأسباب سياسية رافقت التحولات التي شهدتها مصر منذ ثورة يوليو 1952؛ لأن حرية الفكر عانت وقُيدت في بداية ثورة يوليو في محاولة من الثورة لحماية نفسها ضد أي أفكار مضادة، ونتيجة لذلك التقييد أصاب الفكر المصري فقر شديد، ولم تعرف مصر في الثلاثين سنة اللاحقة على قيام ثورة يوليو حركات ومغامرات فكرية تًجدد وتُحرك الراكد كما حدث في أعقاب ثورة 1919، وأصبحت القوة الثقافية المصرية تطير بجناح واحد أما يسار وإما يمين، وفي الحالتين كان جناحًا مقصوصًا محدود الفاعلية والتأثير.
كما أضاف الأستاذ نجيب محفوظ للأسباب الكامنة خلف أزمة الثقافية في مصر، وضعف المناعة الثقافية والمعرفية عند المصريين، أسبابًا اقتصادية نتيجة لسياسة الانفتاح في عهد الرئيس السادات، وسوء الحالة الاقتصادية، والغلاء العام، وغلاء أسعار الكتب بالنسبة للقلة المثقفة التي ظلت على وفائها للثقافة الجادة المكتوبة، ونتيجة لكل ذلك أصبح المناخ الثقافي في مصر عليلًا يحتاج إلى علاج، وأصبحت المواهب الجديدة تُبدع وتُكتب في جو مظلم معادٍ لا يُعطيها حقها.
في النهاية رحم الله الأستاذ نجيب محفوظ، الذي تحدث في بداية الثمانينيات عن أزمة الثقافة في مصر، وكأنه يتحدث عن أزمة الثقافة والمثقفين في عصرنا الراهن، وعن حاجتنا اليوم لإعادة بناء الإنسان المصري بالتعليم والثقافة، وعن حاجتنا لتقوية الجهاز المعرفي والثقافي والحضاري للمصريين في عصر جديد شديد التعقيد، ومتخم بالتحديات الثقافية والمعرفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الدول الوطنية وشعوبها في منطقتنا العربية خاصة والعالم عامة.