فضيلة رجل الدولة
عرفت مصر منذ فجر تاريخها القديم أول دولة في التاريخ، وأول جيش وطني، وأول سلطة وحكومة مركزية، وأول تنظيم إداري لتسيير شئون الدولة؛ ولهذا أصبح لدوائر السلطة فيها – قديمًا وحديثًا - أدبياتها الخاصة وقواعدها الحاكمة وقوانينها الظاهرة والباطنة العابرة للأنظمة، والتي يجب أن يلتزم بها الداخل إلى ذلك عالم السلطة والخارج منها.
ولهذا حفل الأدب التهذيبي المصري القديم بشرح آداب التعامل بين الرؤساء والمرؤوسين، وآداب معاملة الحكام، وشرح كيفية محادثتهم ومجالستهم على موائدهم. منها على سبيل المثال، تعاليم "بتاح - حوتب" وزير الملك "إسيسي" أحد ملوك الأسرة الخامسة (عصر الدولة القديمة) وتعاليم "كاجمني" وزير الملك "حوني" من أواخر ملوك الأسرة الثالثة عشر (عصر الدولة القديمة)، وتعاليم الكاتب "امنموبي" من إقليم إبيدوس، الأسرة الثانية والعشرين (عصر الدولة الحديثة).
ولقد كان لتعاليم امنموبي التي كتبها إلى ابنه "حور ماخر" شهرة عظيمة في زمانه، حتى أنها كانت تُستخدم كنصوص تعليمية في المدارس في عصر الدولة الحديثة. ومن أشهر تلك التعاليم قوله: "احفظ لسانك سليمًا عندما تُجيب على رئيسك، ولا تذمه، واحذر الاندفاع في الإجابة؛ فالإنسان يبني ويهدم بلسانه". وقوله: "لا تصغين إلى أجوبة شريف في بيته، ثم تنشره إلى آخر في الخارج".
وأظن أن هذه الأدبيات في مصر القديمة، لم تختلف كثيرًا عن مثيلاتها في دوائر السلطة في مصر الحديثة والمعاصرة، حيث أصبحت الفضيلة الكبرى لرجل الدولة الذي اقترب من دوائر السلطة العليا، ورأى وعرف، هي فضيلة التكتم والصمت أثناء عمله، وفضيلة الخروج بهدوء من دائرة السلطة - مع الالتزام التام بالتكتم والصمت - عندما يُقال له: شكرًا لك، لقد انتهى دورك، من دون معارضة أو مزايدة على السلطة ومتخذي قرار الاستغناء عن خدماته.
وأظن أن أعظم نموذج دال على ذلك الأمر في تاريخنا المعاصر، هو الراحل السيد زكريا محيي الدين (1918- 2012) رحمة الله عليه، وهو واحد من أبرز الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو 1952، وأكثرهم مهابة وغموضًا. وقد عمل مديرًا للمخابرات الحربية، وأسس المخابرات العامة المصرية، وعمل رئيسًا لها. وكذلك أسس ورأس الجهاز المركزي للمحاسبات. كما عمل وزيرًا للداخلية، ورئيسًا للوزراء، ونائبًا لرئيس الجمهورية في الفترة من 1965 حتى 1968.
وقد خدم السيد زكريا محيي الدين مصر بكل إخلاص ونزاهة وتجرد وإنكار للذات في أخطر المواقع القيادية الأمنية والسياسية والتنفيذية، ثم ابتعد تمامًا عام 1968 عن كل تلك المناصب، وعن الحياة السياسية، وعاش في هدوء وصمت حتى وفاته عام 2012، دون أدنى رغبة منه في الكلام أو العودة للمشهد أو دوائر السلطة والشهرة، ولو بكتابة مذكراته؛ ولهذا استحق أن يُوصف بأنه "الصندوق الأسود لعصر عبد الناصر"، و"رجل ثورة يوليو الصامت"، واستحق أن يصبح إلى اليوم موضع احترام الشعب ودوائر الحكم والسلطة في مصر، ورجل الدولة كما ينبغي أن يكون.