الخميس 26 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

في محبة الكعك والبارود

الأربعاء 06/نوفمبر/2024 - 09:50 ص

كانت هزيمة 5 يونيو 1967 مريرة وقاسية على المصريين، سرعان ما تجاوزها جيشنا العظيم، فكانت معركة رأس العش وبداية حرب الاستنزاف التي كبدت العدو خسائر فادحة، وعمليات فدائية ونوعية قام بها أبطالنا خلف خطوط العدو، وضربات موجعة كعملية الحفار وتدمير المدمرة إيلات وغيرها، لنؤكد للعدو أننا لا نستسلم ولن نفرط في شبر من أرضنا نموت أو ننتصر.

حاربنا وانتصرنا وقهرنا العدو المتغطرس، وقدمت قواتنا المسلحة بكل أفرادها أروع الأمثلة في التضحية والفداء والجود بالروح والدم في سبيل عودة الأرض المسلوبة.

كان لكل جندي وصفّ ضابط وضابط قصة بطولة ما زالت تروى وسنظل نفتخر بها ونكتبها بحروف من نور يتوارثها الأجيال ليعلموا أن للوطن درعًا وسيفًا.

دائمًا ما نحكي عن بطولات أبطالنا على الجبهة، ولكن ما لم يُحكَ عنه هو حكاية شعب أشاد به الرئيس السادات في خطاب النصر أمام مجلس الشعب عندما قال: (لقد أعطى شعبنا جهدا غير محدود، وقدم تضحيات غير محدودة، وأظهر وعيًا غير محدود، والأهم من الجهد والوعي والتضحيات أن الشعب احتفظ بإيمان غير محدود وكان ذلك هو الخط الفاصل بين النكسة والهزيمة).

في كتاب أكثر من رائع للكاتب والصحفي محمد توفيق استطاع أن يوثق بعضًا من هذا الوعي والجهد والتضحيات لشعبنا العظيم.

فصال وجال ورسم لوحة عظيمة لشعب عظيم، لم يبخل فيه أحد عن دعم وطنه، رسم صورة متكاملة بكلماته عن حال المصريين قبل الحرب وما بعد الإعلان عن العبور، في المجمعات الاستهلاكية والشارع والمواصلات والعمل وفي الحارات والقرى والجامعات والمصالح الحكومية وأقسام الشرطة، لم يترك شيئًا حيث تقرأ وكأنك تشاهد فيلمًا وثائقيًا،  وتعيش حالة فريدة وأنت تنتقل من محافظة إلى محافظة، ومن حي إلى حي، ومن مصلحة إلى مصلحة، ومن قرية إلى مدينة، واصفًا الحالة بشكل فريد وكأنك تعايشها، والحكومة واستعدادها لشهر رمضان، وحركة البيع والشراء والأسعار للسع الأساسية، وتكاتف الغني والفقير، الفلاح والعامل والطبيب والمهندس، والسجناء والجمعيات الخيرية، وتلاميذ المدارس، وطلبة الجامعات والمستشفيات وحملات التبرع في كل مكان ودعم الفنانين والرياضيين وكل فئات المجتمع.

فالبطولة لم تعد مقصورة على من يملك السلاح، ويطلق النيران على العدو، فقد قدم المصريون وقت حرب أكتوبر بطولات لا تقل عن بطولة أبطالنا على الجبهة.

فقد كان قرار العبور مفاجئًا للمصريين والعالم أجمع، وفشل العدو بأجهزته واستخباراته ومن يؤازرهم في معرفة ساعة الصفر، بل إنهم أجزموا بأن المصريين لن يحاربوا قبل عشرين عاما، وانتشرت نكتة رددها العدو والصديق (البلد دي آخرها تستعد للأكل.... مش للحرب).

وكان الشارع المصري في حالة من الغليان بسبب الهزيمة، وهناك أمراض اجتماعية منتشرة لم يعهدها المصريون كالسرقة والنشل والنصب وحوادث القتل، ناهيك عن الوضع الاقتصادي الصعب، وتذمر طلبة الجامعات وتظاهراتهم للمطالبة باسترداد الأرض والثأر لهزيمتنا، وانتشرت النكات وتقبلها المسؤولون بصدر رحب.

فالعبور كان في شهر رمضان بكل خصوصيته عند المصريين، ولظروف الحرب تغيرت كل عاداتهم، وأنه يجب عليهم أن يستعدوا لمجابهة القادم من ظروف صعبة، وأن يتكاتفوا ويساندوا أبطالنا على الجبهة، فما زالت أحداث العدوان الثلاثي والنكسة ترمي بظلالها عليهم، لكن حلم النصر يراودهم الآن ولا بديل لديهم سوى النصر.

وانقلب كل شيء مع البيان الأول للقوات المسلحة، وسادت حالة من القلق والغموض في بداية الأمر، وهلل المصريون عند سماع البيان الخامس (نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات كثيرة، واستولت على نقاط العدو القوية بها، ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة) وتغيرت معه دفة الأمور في الداخل المصري، وكأننا في المدينة الفاضلة.

والتزم المصريون بكل خطط الدولة التي أعلنتها، فقد عهدوها منذ النكسة كسماع صفارات الإنذار وكيفية الاختباء في الملاجئ وعدم إنارة المنازل وغلق الأبواب والشبابيك وأنابيب البوتجاز، وصارت أخبار المعركة هي شغلهم وطعام إفطارهم وسحورهم.

وبدأت الملحمة كثيرة التفاصيل والفصول وإليكم بعضًا منها، وإن كان سلاح المهندسين استطاع سد ثغرات أنابيب النابلم وتشغيل الطلمبات التي تزيل الساتر الترابي، فقد اجتهد مهندسو الأحياء في معالجة كل مشكلة في الداخل، وكانوا عمالا وسائقين وفنيين يؤدون واجبهم في الجبهة الداخلية.

وإن ارتدى الجنود المموه على الجبهة فقد ارتدى الأطباء البالطو الأبيض مع ملائكة الرحمة، يطببون المرضى ويداوون الجرحى في ظروف حالكة الصعوبة، ويعملون ليل نهار بدون كلل، ورسموا لوحة مشرفة من العمل الوطني في سبيل الدفاع عن الوطن.

كانت استجابة المصريين لكل التعليمات التي تصدر إليهم عظيمة ومشهود بها، ومع تطور المعركة وخسارة العدو في أرض الميدان، بدأ في ممارسة الخسة والندالة واستهدف المدنيين في القرى والمدن وقذف بكل دناءة أطنانًا من قنابله، وأجسامه الغريبة المتفجرة، على أبرياء من شعبنا، أدت إلى وقوع ضحايا بين جرحى وشهداء، وتسابق المصريين إلى مراكز التبرع بالدم، ونقل الجرحى وتجميع رفات الشهداء لدفنهم، ودعموا لجنة التبرعات للمجهود الحربي بكل غالٍ ونفيس لديهم، وتبرعت السيدات بحليها الذهبي والأطفال بما يدخرونه في حصالتهم، وتبرع السجناء وهم في محبسهم، وتسابق المعلمون إلى إعطاء مجموعات تقوية ومدرسات الاقتصاد المنزلي إلى صناعة ينيفورم الجنود وتقديم الهدايا للجرحى والمكوث معهم وطمأنة ذويهم.

واندفعت الجموع إلى تنظيم الصفوف في كل مكان، وانتشرت فرق الدفاع المدني والمقاومة الشعبية، ولنا في مدن القناة قصص لا تنتهي من البطولة، ومثلها في باقي محافظات مصر، فقد نجح المواطنون في القبض على عدد من قوات العدو وتسليمهم إلى الداخلية، حتى أنهم قبضوا على طيار مصري خوفًا من أن يكون يعبث بهم، وظلوا متحفظين عليه إلى أن تم تسليمه للداخلية.

كما نجحوا بعد أوقات رفع الحظر في أن يعيدوا كل شيء إلى طبيعته، ويصلحون ما تم تدميره من ضربات العدو، وينفذون تعليمات الحكومة ويسعون إلى أن تصل إلى كل مواطن في إذاعتهم الداخلية لكل منطقة.

وتسابقوا إلى الهلال الأحمر للتبرع بالدم، والسيدات التي حاكت كثيرًا من البدلات العسكرية للجنود، وصنعن المفارش والبيجامات للجرحى، ولم يصنعن كعك العيد وتم تأجيله إلى ما بعد انتهاء الحرب، وتطوعن للعمل في المستشفيات، كما فعل طلبة كليات الطب ليعوضن نقص الكادر الطبي.

وتلاميذ المدارس تنازلن عن وجبة غذائهم لصالح المجهود الحربي، وتطوع طلبة الجامعات في مراكز تدريب الدفاع المدني، الجميع في سباق لا نستطيع أن نذكر أو نحصر تلك الأمثلة الإيجابية التي رفعت راية الوطن أولا، إنهم حقا كل شعب مصر الذي تضافر وتلاحم وصنع ملحمة كبيرة لا تقل عن ملحمة أبطالنا على الجبهة.
ودوت الحكايات تتناقل لقصص حقيقة رائعة يجب أن تحكى بأسماء شخصياتها، ليتباهى الأحفاد بما سطروه أجدادهم من وطنية صادقة لحب الوطن ودعم لقواتهم المسلحة.

تابع مواقعنا