ألم التضحية
• القصة دي أنا عارف أطرافها معرفة شخصية وهما أصدقائي، ولكن وبرغم معرفتنا القوية إلا إن الطرف الرئيسي فيهم صمم إني ماكتبهاش لكن وبعد إلحاح وافق، لكن على شرط عدم ذكر اسمه الحقيقي أو حتى الإشارة له بالأحرف الأولى ووافقت.
شلة مكونة من 3 أصدقاء أنا، وأحمد، ونادر، ماكنش فيه أي فروق ممكن تلفت نظرنا بيننا وبين بعض، يعني إيه؟، يعني أحمد ورغم إن ظروف أسرته الاجتماعية كانت أرق وأبسط حالا مني ومن نادر، إلا إننا عمرنا ما حسينا ده للحظة واحدة، حتى الثلاثي المرح زي ما كانوا بيحبوا يسمونا، المذاكرة سوا، الأكل سوا، الفُسح سوا، السفر سوا، وكل حاجة كانت مخليانا إخوات أكتر مننا أصدقاء.
نادر كان عنده حلم متعلق بمشروع معين في باله عايز يعمله، مشروع هيغير مسار مستقبله للأفضل وكان بيخطط له من وهو لسه في كلية! والنتيجة؟ من أي فلوس تقع تحت إيده كان دايمًا بيشيل مبلغ على جنب عشان يجمع الرقم الكبير اللي في باله واللي هيكون نواة مشروعه العظيم، كان عاجبنا إصراره وتصميمه فوق الوصف، زاد إعجابنا بيه أكتر لما أخد من والده الفلوس اللي كان والده مخصصها له عشان يتجوز بيها وحطها من ضمن الفلوس اللي بيحوشها!
نقول له: يا ابني طب وجوازك! يرد: وهي فين العروسة أصلًا يا جدعان! وبعدين لما أحقق اللي نفسي فيه هيبقى فيه بدل العروسة اتنين وتلاتة، الرقم الإجمالي اللي جمعه نادر كان حوالي 280 ألف جنيه! كانت فرحتنا كبيرة كإن إحنا اللي خلاص بقينا على وشك تنفيذ مشروع عمرنا مش هو، لكن للأسف وبالتوازي مع المرحلة دي أحمد تعب تعب مفاجئ وصعب!
تعب غريب على واحد في سنه ود اللي اضطرنا ناخده ونوديه عشان يكشف، أحمد بطبعه بيكره الدكاترة والمستشفيات لكن بعد ضغطنا عليه راح، اتصدمنا كلنا إنه مصاب بمرض صعب وعنيف وإنه محتاج عملية جراحية ثم بروتوكول علاجي معين ثم عملية تانية ثم بروتوكول علاجي مكثف ثم عملية ثالثة!، يعني من الآخر موضوع طويل.
كنا نتمنى أنا ونادر إن كلام الدكتور يكون بيينا وبينه بس لكن أحمد كان سامع كل كلمة، استغربنا لما نزلنا من الكشف وبعد رحلة التحاليل الأولية إنه بيضحك وواخد الموضوع بهزار وواضح من صيغة كلامه إنه مش ناوي ينفذ حرف من اللي اتقال، تفكيرنا طلع صح وطلع ده اللي في بال أحمد فعلًا وانتهت القعدة بتاعتنا بعد الكشف لـ لا شيء.
في نفس اليوم بالليل اتصل بيا نادر وسألني فاضي بكره الصبح قولتله أيوا قال لي طيب جهز نفسك عشان هنروح نخلص إجراءات عملية وعلاج أحمد!، لحد قبل الجملة دي أنا ماكنش عندي تركيز وماكنتش شايف إن السبب الرئيسي لرفض أحمد للعلاج هو وضع أسرته المادي الصعب واللي كان يستحيل معاه إنه يمشي على العلاج بكل التفاصيل اللي قال عنها الدكتور.
بس نادر انتبه للنقطة دي، سألته وإحنا في طريقنا للحجز لـ أحمد أنت عارف التكلفة هتكون كام؟ رد عليا: قصدك إجمالي التكلفة لو وصلنا للمرحلة الثالثة؟ قولتله أيوا، قال لي: أنا سألت وعرفت إنها هتكون حوالي 250 ألف جنيه! سألته: طب ودول هيتجابوا من فين؟ رد بسرعة من الفلوس اللي كنت محوشها لمشروعي! أنت اتجننت يا ابني!، طب وحلمك؟ رد: مسيره يتحقق في يوم من الأيام لكن صاحبي مش هيتعوض.
وحصل فعلًا ومشي أحمد في مشوار علاجه بسبب فلوس نادر وتحت إلحاحه، صحيح إن ربنا شاء إن أحمد يتوفى بعد المرحلة الثالثة من العلاج بس فضلت قصة تضحية نادر محفورة في ذاكرتي ومش هنساها.
• في سنة 1980 الطفلة ليندا اللي كان عندها وقتها 6 سنين والدتها اتوفت، وهما في المستشفى هي ووالدها سمعت حوار بين والدها وبين الدكتور إنهم في المستشفى هياخدوا قرنية العين بتاعت أمها كتبرع زي ما كانت كاتبة في الوصية بتاعتها، أبوها ماعترضش لإنه كان عارف الموضوع، ليندا ثارت واتعصبت كطفلة ومسكت في خناق أبوها إزاى هتخليهم يعملوا كده، أمي جت للدنيا جزء واحد ولما تمشي منها لازم تمشي كجزء واحد، أبوها استقبل ثورتها بهدوء وضمها لصدره وقال لها: أعظم هدية ممكن حد يديها لحد هي جزء من نفسه، أمك عظيمة وقررت تدي جزء من نفسها لـ إنسان متعرفوش يكون محتاجه.
تدريجيًا البنت استوعبت، مرت السنين وليندا أتجوزت وخلفت بنوتة سمتها وندي أبو ليندا جاله مرض صعب، انتفاخ الرئتين، ووفاته بقت قريبة بالمعايير الطبية بتاعت الزمن ساعتها، وهو على فراش الموت نده على ليندا وطلب منها إنها تتبرع بقرنية عينيه الاتنين بعد ما يموت!
ليندا كانت مترددة بس أبوها ابتسم وفكرها بأمها وإنه بيحاول يكون عظيم زيها، ليندا وافقت، خرجت من الأوضة وفوجئت بـ بنتها وندى كانت سامعة الحوار كله وقالت لها: أنا فخورة جدًا بـ جدي يا أمي وأرجوكي أن تساعديه على تحقيق رغبته، أمها سألتها: ليه؟ ردت: تخيلي أن عينه تكون السبب إن طفل صغير يقدر يفرق بين الألوان أو يرسم أو يشوف اللي بيحبهم، جدي عظيم، ولما أموت أنا كمان عايزاكي تتبرعي بعينى الأتنين زى جدي.
ليندا حضنتها وحست فعلًا بعظمة أبوها وفعلًا مات وفعلًا ابرعت بعينه، تمر السنين أكتر وأكتر وتواجه ليندا تالت أكبر صدمة في حياتها بموت بنتها وندي، في حادثة عربية! بس المرة دي وهي بتمضي على ورق التبرع بقرنية عيون بنتها كانت مبسوطة لأنها فهمت المعنى من المرتين اللي قبل كده من أبوها وأمها.
وزاد انبساطها لما جالها جواب بعدها من بنك العيون في أمريكا مكتوب فيه بالنص: السيدة ليندا ريفرز، نود أن نعلمكم أن عملية استزراع القرنية كُللت بالنجاح والآن استعاد شخصان مكفوفان نعمة البصر وهما يمثلان ذكرى حية لابنتك، تلك الإنسانة التي كانت حريصة على الحياة ومشاركة الآخر في جمالها.
• مفيش حياة بدون حب، ومفيش حب بدون تضحية، ومفيش تضحية بدون ألم، التضحية، جزء رئيسي من الحب لو كان حقيقي، الترمومتر اللى بنقيس بيه معزة الناس عندنا هي قيمة الحاجات اللي ممكن نضحي بيها عشانهم، وهو برضه نفس المقياس اللي بنعرف بيه غلاوتنا عندهم باللي بيضحوا بيه عشاننا، جايز مشكلتنا في التوجيه، مش بنعرف بندي إيه لمين، تضحيات كتير راحت لناس فشنك لا يستحقوها، وناس تانية زى الدهب ماكانوش عايزين منك إلا شوية تضحية عشان تحافظ عليهم بس ترددك خلاهم يبعدوا، تضحيتك النهاردة للشخص الصح هترجعلك بكره أضعاف مضاعفة، المهم تكون عارف بتضحي عشان مين، الكاتب أنيس منصور قال: التضحية هي أهم وسيلة مواصلات إلى ما تريد.