غربة الفقد

تلاهي الحياة وظروف الدنيا الشخصية لكل واحد فينا واخدانا بشكل أو بآخر مسافة عن كل الناس اللي بنحبهم.. الأمر خارج عن الإرادة خصوصًا لما يكون متحاوط بساعات الشغل اللعينة اللي مابتعرفش عواطف واللي سرعة دورانها مش بتقل بالتالي وبمجرد ما بتيجي فرصة إن الواحد يشم نفسه شوية وياخد إجازة بيجري على اللي مقصر في حقهم بس ولأن عددهم كبير عمرنا ما بنقدر نوفي مع الكل أو نود الكل أو نسأل عن الكل وبالتالي برضه بنفضل مقصرين في نظر شخص ما.

في ليلة رأس الميلادية في 2015 كنت في إسكندرية راكب ميكروباص وكنت أول واحد يركب ومكاني كان في الكنبة اللي ورا السواق على طول اتلهيت في الموبايل والسواق بيحمِّل باقي العربية.. شوية بشوية العربية اتملت واتحركت.. طلعت الأجرة من جيبي وناولتها للي جنبي بدون ما أبص له.. بس خدت بالي بطرف عيني إنه باصصلي بتركيز.. شوية ولقيت صوت من ناحيته بيقولي: ما بتسألش عليا ليه يا صاحبي؟.. بصيت.. اكتشفت إنه صديق قديم ومن أول الناس اللي عرفتهم في إسكندرية بس علاقتنا بعدت بقالها سنتين بسبب ظروف سفري والشغل وقبلهم بسبب مشكلة هبلة كدة حصلت بينا.

بعد البوس والأحضان قعدنا ندردش طول الطريق اللي كان زحمة على غير العادة وخد وقت مش أقل من نصف ساعة.. اتصافينا على اللي فات كله بكلمتين لما دققت في ملامحه وهو بيتكلم لقيت فيه عجز واضح تحت عينيه وكام شعرة بيضا ظهروا في دقنه المنبتة كأنه شاخ في السنتين دول بما يساوي 20 سنة!.. عرف مني إن أبويا توفي وقلتله بعتاب قاسي شوية: كنت محتاجك جنبي الفترة اللي فاتت.. عرفت منه إن أبوه كمان توفي وإن هو اتجوز وبنته الصغيرة اتوفت برضه وزوجته تعبانة من مدة ودايخ بيها على المستشفيات وبعدها رد: وأنا كنت محتاجك أكتر وربنا يعلم.. حسيت بتأنيب ضمير إنه ملاقانيش جنبه في كل المصايب دي وقعدت أفتكر إيه أصل المشكلة اللي خلتنا بعدنا لقيتها ولا حاجة!

حاجة تافهة جدًا بس كانت نتيجتها إن اتنين أصحاب وبسبب العناد مالقوش بعض في أكتر وقت محتاجين بعض فيه، خدنا أرقام بعض تاني بعد ما كنا مسحناها.. كان هينزل على أول الشارع الجاي مد إيده يسلم عليا وقالي تاني: ابقى اسأل عليا يا صاحبي.. رديت: هسأل حاضر والله.. حاول يبتسم وقال: يا ابني أنا برخم عليك والله؛ أنا بس عايز أقولك إن ماعدش حد ضامن عمره ولو عرفت في يوم إني مت هتزعل عليا قوي عشان أنت قلبك أبيض وابن حلال، قلتله: يا عم صلي على النبي بعد الشر العمر كله ليك، الميكروباص وقف؛ وهو بينزل رماها في وشي مرة واحدة: اسأل عليا عشانك مش عشاني.

قبل وفاة والدي الله يرحمه بسنتين علاقتنا كانت قوية جدًا مقارنةً بالفترة اللي قبلها وكأن ربنا كان عايزني اكتشف أبويا بشكل مختلف لأنه هيمشي، بالتالي لما حصلت الوفاة وقبلها فترة التعب حسيت إن ضهري اتقطم حرفيًا وخدت وقت عقبال ما قدرت أقف على رجلي تاني، وفي مرة وبعد الوفاة مباشرةً كنت بسمع الرسايل الصوتية اللي بتتسجل لما يكون الموبايل مقفول لقيت رسالة صوتية قديمة من أبويا الله يرحمه قبل وفاته بمدة ماقدرتش أحددها بالظبط كان بعتهالي لما لقاني مش برد على الموبايل كالعادة بسبب الشغل أول مرة اسمعها: يا ابني خلي عندك دم ورد لما تسمع الرسالة عايز أشوفك، ماخدتش بالي منها إلا وقتها، ومسحتها لأني ماكنتش هستحمل اسمعها تاني بس الرسالة الصوتية دي زودت جوايا إحساس الندم على كل لحظة ضاعت وأنا بعيد عن الراجل ده وزودت جوايا السخط على حاجات تافهة بتبعدنا عن اللي بنحبهم وبيحبونا.. الله يرحمك يا عم عبده.

عمري ما أتمنى إن أي حد يفقد شخص عزيز عليه بالوفاة لأن زي ما الإمام علي بن أبي طالب قال: فقد الأحبة غربة، لكن هل أنت بالفعل بتدي كل العزاز اللي على قلبك حقهم من التواصل رغم مشاغل الدنيا، ولا بتفتكر غلاوتهم بس لما يمشوا؟.. طيب هو إيه أصلًا اللي ممكن يشغلك عن اللي بيحبوك؟.. شغل، مذاكرة، فلوس، مشكلة حصلت؟.. أيًا كان الحاجة اللي هتبعدك عنهم فهي تافهة وماتسواش لحظة ندم واحدة تحس بيها لما يغيبوا فجأة وتلاقي التقصير بالعك من ساسك لرأسك.. الناس اللي بيحبونا بجد مش محتاجين مننا أكتر من مجرد اهتمام وسؤال.. اهتمام عشانك مش عشانهم، وسؤال يحسسهم إن لهم جزء من اهتماماتك حتى لو بمجرد جملة تتقال وجهًا لوجه في زيارة أو بالتليفون أو برسالة على الأنبوكس، الفكرة في البعد إنه بيحصل فجأة ومابيستأذنش.. بكرة هبقى أكلمه، بكرة هبقى أزوره، بكرة هطمن عليه.. بكرة بيجر بكرة بيجر بكرة وبكرة مابيجيش.. اسألوا على الناس اللي بيحبوكم وماتخلّوش شغل أو ظروف تلهيكم عنهم أما اللي هما مقصرين في حقنا فسماح بس من وقت للتاني ابقوا اسألوا علينا.. اسألوا علينا عشانكم مش عشاننا.