في خريف الدنيا كان أبي الربيع
رغم أن والدي الحبيب ولد في فصل الخريف، لكن التقويم الحياتي غالبا يكون أكبر صدقا، وأكثر واقعية منه، لذلك كان ميلاد أبي بمثابة الربيع الذي تزهو به حياة من حوله، وتنبت فيه الكثير من المشاعر التي يضفي بها على كل من يعرفه "ففي خريف الأيام كان ربيعها".
أبي هو ذلك البطل المغوار الذي واجه نيران الحياة وحده، ولا يزال يواجهها دون ملل أو كلل، كان نور حياتنا رغم عتمة الحياة، كالشمعة التي تحترق، فلا تشكو ألما أو تبدي حزنا، لكنها سراجا منيرا لمن يرافقها.
61 عاما من الإنسانية
إن أعظم وصف أستطيع أن أصفه به أنه “إنسان” في وقت ندرت فيه الإنسانية واندثرت، لست مجاملًا بهذا الوصف كونه أبي، وقدوتي، وتاج رأسي، ورفيق عمري.. بل أصف الإنسان الذي أعلم كل شيء عنه، أعلم خفاياه التي هي أعظم وأجل شأنا من ظاهره الذي يبدو للجميع أنه الأمثل، فإذا ما كنتم تعرفونه أمثل، فهناك ما لا تعرفونه؛ ما هو أمثل بكثير من ذلك.
لا أعجز غالبا حين أقرر كشف الغطاء عن قلمي لأشرع في التعبير عن شيء، لكني والله لا أشعر بالعجز كما أشعر الآن، ينهال قلبي بالكثير من المشاعر التي تهزه هزًا، لكني عاجز عن البوح بما فيها، والتعبير بما يتناسب مع قدرها.. لم لا؛ وجمال الموصوف قد بلغ كل وصفٍ، وقدر المقصود سمى كل قصدٍ.
حقيقي لو كان الإنسان يختار أبويه لما اخترت بتلك الدقة الإلهية، التي هي أجل نعم الله علي وعلى أهلي جميعا.. “أبوة” لا يكفيها شكر، ولا يجبرها قرب، وفضل لا تسعه الدنيا، ورفعة لا تضاهيها مكانة.
لا يحزنني شيء كحزنه، ولا يؤلمني حال كألمه، ولا أفرح إلا أن يسبق فرحي فرحه.. هو دفئي؛ حين تشتد برودة الأيام، وظلي؛ حين تقسو حرارتها.. فـ والله إني لأحب أبي، وأحب من يحب أبي، وأبغض من يبغض أبي، ولا أسامح أبدا من أذاه ولو بكلمة حتى إن كان لا يلقي بها بالًا.. ولعل كلمة "أنت شبه أبوك" هي أجمل كلمة تدق باب أذني، لها مذاق خاص، أحلى من ألحان عبد الوهاب، وأعذب من صوت أم كلثوم، وأقوى عبارة من نثريات هيكل، وأكثر وقعا من أبيات شوقي.
هو الإنسان الوحيد في هذه الحياة؛ الذي أتمنى أن يؤخذ من عمري لعمره، ومن صحتي لعافيته، وأدع الله دائما بأن لا يسبق أجله أجلي، ولو كان الأمر بيدي لأوقفت عقارب الساعة الزمنية؛ فما تحركت له أبدا.
يا مَن عشـْـتَ دهرَك تجني الهمَّ والنّصَــبا
سأنظم الشعر مدحًا فيكَ منطلِـقًا.. يجاوز البدرَ والأفلاكَ والشّهُبـا
إن غاضَ حِبري بأرض الشّعر وا لهفي!.. ما غاض نبعُ الوفا في القلب أو نضبا
قالوا: تعالي فمَن تعني بشعرك ذا؟.. فقلت: أعني أبي أنْعِمْ بذاك أبا
كل عام أبي الخير لكل عام، كل عام أبي بيننا معافىً في بدنه، لا يشكو هما، ولا حزنا، كل عام وأبي لله أقرب وعلى الطاعة أدوم وعن المعصية أبعد، كل عام هو سراج طريقنا، وميزان الحق في حياتنا.
السعادة لأبي ولكل من يحب أبي، ويحمل في قلبه الخير لأبي.