سقط بشّار.. ولكن من فات قديمه تاه!
"السجن يا صابر مش سور عالي وباب مقفول عليك.. السجن ممكن في هدمة مش عايز تلبسها.. ناس مش عايز تشوفهم.. شغلانة مش حاببها.. أنا عايزة أكون حُرة يا صابر"، تلك الكلمات التي جاءت على لسان إحدى الشخصيات بعمل درامي سابق، معربةً عن استيائها الشديد من خوضها تجربة السجن والحبس وسَلب حريتها، مشيرةً إلى أن السجون ليست بالأبواب المغلقة والأسوار العالية فقط، وعلى الجانب الآخر، فإن "صيدنايا" -أشهر وأحصن سجون سوريا- جسّد لنا المعنى الحرفي والفعلي لكلمة معتقل، فالمساجين في صيدنايا لم يكونوا يعانون فقط من أسوار عالية وحبس وتطبيق أحكام قضائية، بل الأمر ببساطة أنهم كانوا يعانون من آليات تعذيب عديدة، سَلبت منهم كرامتهم وأبسط حقوقهم كـ النوم والإخراج والطعام.. فـ عن أي أسوار وجدران نتحدث؟
معاناة يومية كان يعيش بها مواطنو سوريا، تخيل أن يصبح روتينك المتكرر هو التنقل ما بين وسيلة التعذيب هذه لوسيلة التعذيب تلك، أمس وما بين تصفح مقاطع الفيديوهات هنا وهناك، ومشاهدة احتفالات التحرير من "المسلخ البشري" صيدنايا وغيره من معتقلات سوريا، وبسقوط نظام "الأسد" بشكل عام، لم أستطع المشاركة الوجدانية لتلك الفرحة والاحتفالات، التي ربما تعد من الانتصارات السياسية القليلة التي يشهدها جيلنا الحالي، والسبب هو أن ما رأيته وسمعته من خطابات المعتقلين والمعتقلات بعد التحرير، عجز عقلي عن استيعابه، استيعاب أنه بتلك الحياة التي نحياها جميعا، كان هناك بشر سُلبت منهم جميع معاني الإنسانية والآدمية، شخوص أصبحت أقصى طموحاتهم، الإفلات من قائمة المعدمين اليوم، ولكن ربما يكونون في قائمة الغد..
دخلت فتاة عذراء وخرجت سيدة وأمَّا لأطفال بلا نسب
لم ولن يغيب عن عقلي قصص المعتقلات تحديدا، كانت إحداهن تروي معاناة النظام والاعتقال بناء على تجربتها التي خاضتها بنفسها، قائلةً: تذوقنا فنونا خاصة ومختلفة بالتعذيب، كنا 40 سيدة بغرفة صغيرة، السجون كانت مقابر ومشوفناش فيها أي إنسانية، كنت بتمنى أموت.. أنا كتير تعذبت"، وماذا عن فتيات سوريا، الضلع الأضعف دائما، دخلت الفتاة منهن المعتقل، عزباء عذراء كلها آمال وأحلام، لتخرج منه أمًّا تحمل أطفالا على كتفيها، لا هوية لهم ولا نسب، نتيجة لإنجابهم بعد التعرض لعمليات الاغتصاب بشكل دوري ومستمر بداخل هذا الكيان، فلا تعرف نسبًا لهؤلاء الضحايا الجدد، التي هي بالفعل واحدة منهم.
أصبح وحيدًا وأفكاره هي رفيقة دربه الأولى والأخيرة
وليس فقط أنساب هؤلاء الأطفال التي تعد مجهولة الهوية، بل وأسماء عدد كبير من المعتقلين أصبحت مجهولة حتى لأنفسهم، فـ بمقطع فيديو متداول، نجد أحد هؤلاء قد نسي اسمه وهويته، نتيجة للمكوث بين حيطان السجون أعواما عديدة، فـ الإنسان الذي يعد "حيوان اجتماعي"، أصبح وحيدًا يستأنس فقط بنفسه وبأفكاره، وما أدراك بـ حال من تصبح أفكاره هي "رفيقة دربه الأولى والأخيرة".
بلغ ونضج وشاب في أحضان الغرباء وجدران المعتقلات
بالطبع لكل مقام مقال، ولكن عندما يأتي الحديث عن هذا الرجل الستيني.. فماذا بوسعنا أن نقول؟، الرجل الذي دخل أحد معتقلات سوريا وهو يبلغ من عمره 14 عاما فقط، ليخرج منه بعد سقوط نظام بشار الأسد، وهو بالغ من عمره الستين عاما، فكيف بحال من تربّى على يد جدران السجون، وترعرع شبابه بين غرباء، بلغ ونضج وشاب شعره على ريح الذل والقمع والمآسي.
مناضلة 11 يومًا أدت لاحتفالات الوطن العربي بأكمله، فرحًا بتحرير آلاف من الأنفس البشرية بسوريا، ولكن أحقا من المنطقي أن نبارك لهم؟ على أي بيت سيخرجون؟ وبأي شخصية سيواجهون الحياة مرة أخرى؟ هل سيجدون بقية من أهلهم في انتظارهم والترحيب بهم.. أم سيفاجؤون برحيل أكثرهم إن لم يكن جميعهم؟ فإنها أعوام مرت بداخل تلك الجدران، التي دفنت أي مَعلَم من معالم الإنسانية بداخلهم، قتلت حتى الأمل والرغبة في الخروج من هذا القبر، بالطبع نحمد الله على سقوط نظام القمع والذل، وتحرير بلد بات الظلم أمرًا طبيعيًا بها، ونعيش حاليًا بتجسيد فعلي لـ "ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت".. ولكن يبقى السؤال.. هل سيستطيع المعتقَل المُحَرر العيش والبدء من جديد؟.. أم سيبدأ معاناة جديدة في التعود على الحياة الآدمية خارج المعتقلات والسجون.. من منطلق "من فات قديمه تاه"؟