خاص.. ننشر مقاطع من ديوان «مساكين يعملون في البحر» الفائز بجائزة الدولة التشجيعية
في إطار اهتمام موقع “القاهرة 24” بالجوانيب الثقافية والأدبية، والإشادة بكل الموهوبين، خاصة الحاصلين على جوائز رسمية من الدولة منهم، ينشر الموقع مقاطع قصيرة من ديوان “مساكين يعملون في البحر” للشاعر عبد الرحمن مقلد، الفائز بجائزة الدولة التشجيعية، التي أعلن أمس، وذلك ضمن ملف معد عن الديوان سينشر الموقع مواده بالتوالي..
«يعملون في البحر»
…
وأرواحُنا تَتشَهى
البَقاءَ
البَقَاءَ فَقطْ
دون لونٍ يُعرِّفُها
كيف تَهفو لشىءٍ
وكيف تميلُ..
لا ضَيعَةٌ في الرَحيلِ
ولا نَتبدَّلُ في الطَقْسِ
كُلُّ المَواسِمِ تَبدُو كَذَلِكَ عَادِيةً
والنُحُولُ..
النحولُ الذي نَتبَدَّى بِه
لا تُشَارُكَنا الجَاذِبيَةُ فِيه
«مثلَ فَلاسِفةٍ قُدماءَ»
…
ستجعلُنا لَحَظَاتُ الوَدَاعِ السَرِيعَةُ
نَحْثُو الرِمَالَ على وَجْهِنَا
ونَدققُ فيك
سيُوجِعُنا حزنُ وَجْهِكَ
- وَجْهِ ابنِ مَرْيمَ هَذا –
ولِحْيَةُ سُقْرَاطَ
تِلكَ التي جَمَعَتْنَا هُنَا
كفَلاسِفةٍ قُدماءَ
وجُسْمَانُك الضَخْمُ،
هَذا الذَي نَتَطَوّفُ في قُطْرِه كالحَجيجِ
«أما مثلكم أتألم»
مَرَّ عَلى الطُرُقَاتِ سَرِيعًا
لكَي لا يَراهُ الشُيوخُ
ولا الرُضَّعُ..
ولا يَجَزَعُ الخَائفُونَ من اللَيلِ
لا تَسمعُ الأمَّهَاتُ دَبِيبَ خُطَاه:
أَنا مِثلُكم لا أَزَالُ أُرَقّقُ عَينيَّ بالدَمِعِ..
أو أَنحَنِي
حِينَ تُقبَضُ عِشرون رُوحًا
بضَربَةِ حَظٍّ
وأحَزنُ حِينَ يَموتُ من الاختِنَاقِ
مَريضُو التَنَفّسِ
أَنحَبُ حِينَ يُودّعُ خَمسُون طِفِلًا
حَقائِبَهم تَحتَ هَذا القِطَارِ
وأهْرُبُ في خَندَقٍ
حِين تَقِصِفُ طَائرَةٌ فِي العَرَاءِ جُنًودًا
وأَصرُخُ والبَيتُ يهوِي عَلى قَاطِنِيه
ويَسقُطُ بَعضُ ضَحَايايَ في البِئرِ
يُغْمَى عَليَّ
وأُرجُوحَةٌ تَتفَلّتُ
يَصَعدُ مِنها صَبِيٌ إلى حَتفه
«الدم»
ولستُ بمُحْتَفلٍ وأنَا أعْتَليكَ
وأنت تَخورُ عَلَى الأَرضِ كالثَوْرِ
والشَصُّ يَفْلقُ قَلبَك
يا قَاتِليِ وأَليفي
وقَلبُك آهِ
حَملتُ له كُلَّ مَا يَتشهَّى
لينبضَ ثَانيةً
وأعَدْتُ عليه عَذابَاتِنا
وسِنِيَّ هَوانَا القَدِيمِ
تَمنيتُ ألا أكونَ قَتيلَكَ
أنْ أتراجعَ
أن أتَوسَّلَ كي ترفعَ الرُمحَ عني
وأسجُدَ تَحتَ حِذائك
كي تتوقفَ
«عدوان»
بينما كان يَطلبُ قَادَتُنا أن نُوليَ صوبَ دِيارِ العَدُوِّ ـ ديارِكَ ـ نزرعَ ألغامَنا في الحُقولِ وأسَفلَ جِسرِ المُشاةِ وأن نَتجَهزَ بالمَدْفَعِيةِ نَنتظرَ البَدءَ نُشعلَ آخِرَ تبغَاتنا.. ريثما تَنتهي من صَلاتِكَ تَدخلُ في النَومِ نقَصفُ بلدتك المطمئنةَ..
«ثلاث وعشرون قاطرة»
أكتري شمعِدانًا يُضيء ليَ الأَرضَ
أَدخلُ في خَيمةٍ لعَجوزٍ
تَغيبُ مَلامِحُها
يَطلعُ الحَكيُ
من حَكّةٍ لعَجَوزٍ تَقُصُّ:
تَشقّقْتُ في البَردِ
هذا دَمي يَتيبَّسُ
لم تدخلِ الشَمسُ دَارَتَنا
منذ غَادَرَها رَجُلي
حَاملًا قَوسَه
مَاسحًا عَتَبَ البَيتِ بي
أَتشبَّثُ:
لا تَتركنْ زَوجَةً وبَنينَ وبَيتًا
لليلٍ طَويلٍ وسَهَّارَةٍ
وفَتيلٍ يَقلُّ مع الوَقتِ
لا تَترُكَنْ زَوجةً وبَنينَ وبَيتًا
سوف تُقتلُ يا رَجُلي
وأَمَوتُ من الحُزنِ والبَرْدِ..
«موعظة الرحلة»
في “المَواقِفِ” تَجمعُنا نَدهاتُ السّعَاةِ
وآذَانُنا تَتَسمَّعُ أَحرفَ بَلدتِنا الأُمِّ
والنومُ يَأكُلُ أعينَنا..
عند آخرِ رَحَّالةٍ يَتبَوأُ مَقعدَه..
نَحمدُ اللهَ..
نَختبِرُ الجَوَّ
قد تُمطِرُ الآن هذي السَماءُ وقد لا..
فمن يَصفُ الحَالَ
ـ حالَ السماءِـ
سِواك
ومن يَضمَنُ العَجلاتِ
ومن يَترفَّقُ بالوقتِ غيرُ نَبيِّ
ونحن نَشدُّ هواتفَنا بغناءٍ سَريعٍ
فمن يَتألمُ فينا ويَصرخُ:
“يا إخوتى إنَّ هذا الذي نَتَجَلَّى به
لا تُناسبُه القَفزاتُ..
هنا أَوقفَ اللهُ رَحالةً موقفَ الصَمتِ..
لا تُفسدُوهُ”..
وأدخلَنا في التَأمل
«نُوُّارٌ يُضيءُ ويَختفِي»
كان يَحْكِي لِي أَبي
عن صُورَتي في المَاءِ تَصعَدُ:
كلما جَدّفتَ أكثَرَ
زِدْتَ تَجربةً وعُمرًا
ثم أوصانَي على نَاسِ البُحيرةِ إنهم فُقراءُيا وَلدي
وفَلاحُون مِثلي
أقرباءُ لنا
وكُن يا ابني رَحيمًا بـ “الغلابة”
إنهم أَهلي وأهلُكَ
«أثر العابر»
تعلِّمُنا أنْ نكونَ مُحبِّينَ غَيْرَ قَنوعِينَ
أنْ نَتفادَى هَزائِمَنا في الغَرامِ
بخِفَّةِ صَيَّادْ
وأن نَتَشَهَّى حبيباتِنَا
ونُرِيقَ النبيذَ على رقْصِهِنَّ
وتدْفَعُنَا للصُّراخِ
بأسمائِهنَّ البَسِيطةِ عَبْرَ البَرَارِي ..
نَذوبَ عَلى بَابِهِنَّ مِن الحُبِّ
نَكْتُبُ فوْقَ حَوائطِ دَاراتِهن
شَكَاوَى وأَشعَارَ قَيْسٍ
«وصايا فاتن حمامة»
نَشُدُّ وَصَاياكِ
حَولَ صُدُورٍ مُهَشَّمَةٍ:
“لا تُغفلوا الوَرْدَ والعِطْرَ
لا تَزْدَهُوا كالطَواويسِ
لا تَصْرُخُوا بالغَرامِ
ولا تَكْتُمُوه
ولا تَكتفُوا بالذي في اليَدَينِ
ولا تَخْسَرُوه
ولا تَفْرَحُوا بالقَليلِ مِنَ الحُبِّ
أو تَفْقِدُوه
ولا تَتْرُكُوا شَفَتَينِ مُعَذَّبَتينِ
ولا تَنْهَشُوهَا كَفعلِ الذِئَابِ الجَرِيحَةِ
مُرُّوا كَسربِ عَصَافيرَ
فَوقَ نُهُودٍ مُشَوَّقَةٍ
واستَبِيحُوا حِمَاهُنَّ بالقُبلاتِ
دَعُوهُنَّ يَرْقُدْنَ مِثلَ الغَزَالَاتِ
لا تَسْبِقُوهَا ولا تَلْحَقُوها
«طرق متربة الهواء»
أَعِدَّ رُوحَك ريثما تَأتي الهَزائمُ كلّها أعِدَّ روحَك غَضةً وَتريَةً فالعازفون هنا كَثيرٌ والمُوسيقى لا تَزالُ اعزفْ بقدرِ الليلِ ما يَكفي لهذا الضِيقِ انزفْ لنَا طُرقًا مُتربةَ الهَواءِ وحَافلاتٍ من بَقايا الحَربِ
«في مَديحِ المَحبَّةِ»
تُلَوِّحُ لى الشَاحِناتُ
ورُكَّابُها
وتَلُوحُ المَدينَةُ
مثل عَجُوزٍ تُتَهْتِهُ ثم تُكَافِئنِي بالرَّذاذِ
أقارِنُه بنَدَى وَرْدةٍ عَندَ مَطْلَعِ فَجْرٍ
تُعوِّدُنا الطُرقاتُ عليها
وتَصْحَبُنا في مَتاهَتِها..
فنُصَرِّفُ أنْفُسَنا
وننامُ معًا عندَ أيِّ جِدارٍ
ونَخْلق أُلْفَتَنَا
ويكون لنا في المَكَانِ
حَياةٌ ومَاءٌ ورَائحِةٌ
ثم نَرحَلُ في القَاطِراتِ ..
ونَسقُطُ في أيِّ أرْضٍ
كحَبَّاتِ مِسْبَحَةٍ
«الأناشيد»
الأناشيدُ تُجْبِرُنا أنْ نَفِرَّ
وأنْ نَقتلَ الضِحْكَ
قبلَ احتِفَاءِ الشِّفَاهِ
وآذانُنَا لمْ تعُدْ مُشْرَعَاتٍ كَمَا كَانتِ الأمسَ
مَلَّتْ مِن النَغَمِ اليَائسِ المُتهَالِكِ
والمُتَصَاعِدِ مِنْ جُوقَةِ المُنشِدينَ
وهم يَلبَسُون مَلابِسَ رَسْمِيَّةً رَثَّةً
يُخْرِجُونَ زَفِيرَ أَنَاشِيدِهِم
في طمَأنِينَةٍ لا تُرِيحُ تَوجُّسَنَا
ثم يَبْتَهِلُونَ لتَعلُوَ أَصواتُ آلاتِهم
«خراب يملأ العين»
كان يَوَدُّ التفتح كالصَحْوِ
أو يَتمدَّدُ مثلَ النَباتِ
على جُرُفٍ رَطِبٍ
أو يستطيعُ قَراءةَ أشعارِه العَاطفيةِ
كيف يُمكِّنُهُ الذُعْرُ
مِنْ ذَلكَ الآَنَ
يَملِكُ رأسًا مهشمةً
وصُراخًا على الصَدْرِ
يَكْفِي ليُنشِدَكم صَخبًا فَاضِحًا
يَتناسَبُ واللعناتِ التي تَتوالى
«الثورة»
ليسَ على الثَورَةِ الآنَ
أنْ تَتَلخَّصَ في الأُغِنِياتِ
التي لا تُحَرِّكُ بَاعُوضَةً
أو تُهيِّجُ دِيكًا
يُنقلُها النَاسُ عَبْرَ هَواتِفِهم..
«دم يغطي الوادي الأخضر»
هذا العَالمُ أسْوَدُ
لا يَنتظرُ مَصَابِيحَ تُضِيءُ
ولا أوقاتَ يُغَنَّى للحُبِّ بِها
وبُلادُك
ـ صَدِّقْني يا مِينا ـ
لا تَعرِفُنا
حيثُ تُرَاقِبُ أنتَ الآنَ الشُهَدَاءَ
يَجيئونَ إليكَ جَمَاعَاتٍ وفُرَادَى
«على كل حال»
أرْشَدَ أقدَامَنا الحَدْسُ أنْ نَتسَلَّقَ بَعْضَ التِلالِ ونَترُكَ أُخرى
أنْ نَتعلَّمَ من طَائِرٍ كيفَ تَحملُهُ الرِيحُ مِنْ عَقربٍ كيفَ تَخطو إليه فَريسَتُه وأنْ نتبعَ الخُطواتِ الحَكيمةَ
«إلى الأجيال القادمة»
وها أنا ذَا الآن
أحمِلُ رائحتي وصفاتي
ـ وأنت على كتفيَّ
تداعبُ شعري ـ
وأعْبُرُ بين الرُكَامِ الكَثيفِ
أرى جثثًا تتعفَّنُ في كلِّ ناصيةٍ
وسديمًا يغطي السماءَ
أرَى مَنزِلي تَتهاوى حِجارتُه
والحَرائقُ تمتَدُّ..
أُغنيكَ أُغنيةَ الوَطنِ الأُمِّ
هذا الذي راعَنا أنْ يموتَ
وألا تحلِّقَ رايتُهُ