“الممر”.. إنعاش للذاكرة الوطنية
كل التقدير والتحية لصاحب قرار عرض فيلم “الممر” في الذكرى السادسة والأربعين لحرب أكتوبر المجيدة، فهذا العمل وغيره من الأعمال التي قد تظهر مستقبلاً، تمثل إنعاشاً للذاكرة الوطنية المصرية، التي تلقت ضربات قوية على مدى عقود طويلة، بهدف تهميش كل ماهو وطني، واستبداله بكل ماهو مسف ومتدن.
هناك منصات إعلامية مشبوهة تقف ورائها وتمولها دويلات، لازالت تخوض حرباً ضروس في هذا المضمار وفق خطة ممنهجة، سخرت لها كل الخبرات الفنية الممكنة ودفعت برؤوس أموال غير مسبوقة من أجل أن يحقق هذا المخطط هدفه، في التهميش والتقليل من قيمة إنتصارات مصر.
حنين قديم يربطني بتلك المرحلة الزمنية ، التي تدور فيها أحداث فيلم “الممر”، رغم أنني لم أعاصر المرحلة عمرياً، ولكني إستمعت إلى جزء كبير من شهودها، فقد ولدت وقضيت سنوات الطفولة والشباب في بورسعيد. عاصرت في المدينة الباسلة أجيالاً متعاقبة، شهدت بعيونها وشاركت بسواعدها في أحداث حرب الإستنزاف بمراحلها، ومن قبلها معركة رأس العش التي وقعت على بُعد كيلومترات من بورسعيد، عندما أوقفت كتيبة صاعقة مصرية زحف المدرعات الاسرئيلية ليلة 29 – 30 يونيو 1967، معلنة للعالم رفض الجيش المصري للهزيمة ولتبقى مدينة بورفؤاد تحت السيادة المصرية الكاملة حتي نصر أكتوبر المجيد.
هذا الحنين دائما ما كان يدفع بكل تفاصيل المرحلة الى تفكيري، فقد شاء لي القدر أن أسجل كثير من شهادات البطولة والفخر عندما تخصصت في عملي محرراً عسكرياً، وسمعت وأدركت كثير مما لم أكن أعلمه.
إلتقيت باللواء سيد الشرقاوي ( الرائد محلي أثناء الحرب ) والذي قاد كتيبة الصاعقة التي أوقفت تقدم الدبابات الاسرائيلية، وأخبرني بأسرار العملية وكيف أن مهندساً عاملاً بهيئة قناة السويس هو الذي أرشد القوات المصرية إلى منطقة “سهل التينة” جنوب بورسعيد، وصعوبتها في مرور الدبابات الاسرائيلية، مما ساعد الكتيبة المصرية في إتمام مهمتها ووقف تقدم لواء المدرعات الاسرائيلي، وتحويل ليل 30 يونيو 1967 الى نهار من شدة التفجيرات التي لحقت بمدرعات العدو.
توارثت الأجيال سمات هذه المرحلة بكل ما فيها، كنا أطفالاً صغاراً في بورسعيد نتغنى بأغنية العودة من سنوات التهجير بعيداً عن بورسعيد : ” النجمة مالت القمر ..فوق ف العلالي” ، ولكن من هم أكبر سناً كانوا يتغنون برائعة الخال عبد الرحمن الأبنودي” عدى النهار ” والتي كان يصر العندليب أن يفتح بها كل حفلاته الساهرة حتى تحقق النصر المجيد.
كنت دائماً ما أتوقف أمام الكلمات الرائعة لهذة الأغنية واللوحات الوصفية التي رسمها الابنودي بريشة فنان متجاوزاً العمق التاريخي وكفاح هذا الشعب الذي رفض الهزيمة في كلمات قوية وبسيطة : ” ..وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها” ..” يا هل ترى الليل الحزين، أبو النجوم الدبلانين..أبو الغناوي المجروحين..يقدر ينسيها الصباح..أبو شمس بترش الحنين.. أبدًا بلدنا للنهار..بتحب موال النهار”..
دائماً ما كنت أبحث في حواراتي مع القادة والجنود عن معدن هذا الشعب، عن سر رفضه للهزائم، عن صبره على المصاعب والأهوال، عن عشقه لتراب أرضه، عن تمسكه بقيمه التي يحاول المرتزقه الأن العبث بها، عن الصباح ” أبوشمس بترش الحنين”!
من الشهادات التاريخية المهمة التي سجلتها دونتها ، تلك الشهادة الرائعة للواء أركان الحرب فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية أثناء حرب أكتوبر المجيدة، لقد شاءت الأقدار لهذا الرجل أن يتنقل في عدة مناصب وتخصصات مهدت للحرب، فهو لم يسع يومًا نحو المناصب، ولكنها هي التي كانت تبحث عنه. في جلسات مطولة تحدث معي اللواء نصار عن جولات الصراع العربي – الإسرائيلي الأربعة، التي كان شاهد عيان عليها. وربما تحول في آخرها إلى أحد المشاركين في صناعة القرار بحكم موقعه كمدير للمخابرات الحربية المصرية أثناء الحرب .
عبر هذه السنوات الطويلة.. ظل “فؤاد نصار” مؤمنًا بفكرة أساسية، هي أن جميع الحروب لابد أن تنتهي مهما طالت.. ولكن هناك حروبا أخرى بلا نهاية.
إنها حروب المخابرات.. التي تعتمد على الرجال قبل السلاح.. وهي – أيضًا- الحروب التي لا تعرف السلام ! ..وظللت أنا على يقين من أن القادم دائما هو ” الصباح ..أبو شمس بترش الحنين”.
ويعيد موقع “القاهرة24” نشر مقال الاستاذ شريف عارف، والمنشور في جريدة الأهرام المسائي.