تمشي الهوينا كما!
جاءت إحداهن “تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل”، أي إنها تمشي على مهلها كالعرجاء في الوحل – وهذا مظهر من مظاهر العزة والنعمة، لأن الحركة نوع من الترف، فقد كان قديما تجلس الفتاة على سريرها وتشير بيدها إلى الخدم فيأتون لها بما تريد، وما دامت جالسة فسوف يتكدس عليها اللحم مع الشحم فلا حاجة لها بأن تقوم بل يقوم نيابة عنها الخدم والحشم.. ده كان زمان.
نرجع لموضوعنا، أقبلت الفتاة ترتدي تنورة قصيرة وقميصًا يكاد يكشف عن بطنها، وعليها مكسبات لون، وشكل، ورائحة، من كل صنف ونوع.. شكلها مبهج.. وصورتها شبه جميلة.. وبهاؤها مفضوحًا.. جلست وما إن تحدثت حتى زال البهاء.. وحدث ما حدث.
“لا تخلو امرأة من لمسة جمال”.. وكذلك لا يخلو إنسان من العيوب، فالكمال صفة الإله الواحد جل علاه، فما إن نطقت الفتاة “المبهرجة”، حتى تكشفت سوءاتها، وبانت ركاكة أسلوبها، وضعف لهجتها، ورداءة معانيها، وتلعثم قولها.
أخبرتني أنها خريجة كلية الإعلام بإحدى الجامعات الخاصة، وأن لها صلة برئيس تحرير كبير اسمه “زي الطبل” في الصحافة، وأنه ساعدها مرارًا وتكرارًا في العمل بالمجال الصحفي، وسهل دخولها أماكن كبيرة، وكان اسمه بمثابة بوابة لعبورها الصعاب، والعمل بمؤسسات كبيرة.
كلفني أحد قيادات التحرير – أنذاك – بمتابعة أداء الزميلة، وتوجيهها، وشرح ألوان وأنواع القوالب الصحفية والفرق بين الخبر والتقرير.. وما إن بدأت مهمتي وشرعت في المهمة الجديدة لاح لي أن “الأمورة ضايعة” في نصف مفردات اللغة، و”النص التاني بتحاول فيه”.
حررت خبرا أمام الزميلة العزيزة، فسألتني أثناء الحديث عن معنى مصطلحات دارجة الاستخدام في الصحافة كـ “أيقونة، استشكال، تتجاوز، ميليشيات، اجتاحت، تعزيز، انتقاء، أشار إلى…” وكلمات أخرى أيسر من تلك السابقة.
طالبتها بتحرير خبر، فكتبت وياليتها ما فعلت، فأول “القصيدة كفر”، حيث كتبت: “انهار البيت وكان البرد قارص وتم إخلاء سبيلهم السكان من البيت”، وأكملت خبرًا ركيكا به جملة من الأخطاء، فضلًا عن العبارة السابقة لأن البرد قارس والسكان يسكنون المنزل لا العكس.
مر أسبوع وعلمت أن الزميلة العزيزة تحرر عقد عمل لها بمعرفة السيد رئيس التحرير، يضاهي راتب رئيس قسم يعمل بالمهنة منذ 10 سنوات على الأقل، ولا عجب في ذلك فزملائي الصحفيون يعلمون جيدًا “عزبة” رؤساء التحرير وكيف يُديرون مؤسسات رجال الأعمال، ويقسمون “التورتة”، على “الشلة”، وينصبون عليهم باسم “التطوير والتحديث”.
لطالما كانت الصحافة مهنة قوية، وأداة من أدوات تثقيف الناس وتوعيتهم، وإرشادهم، ومطالعة الناس للمطبوعات، فهي اللسان المفصح الذي ببيانه تتدارك الغايات، ولكن ما حدث بها طيلة السنوات القليلة الماضية، وما أصابها من أمراض، أعرض الناس عنها، وجعلهم يتشككون في رسالتها وفقدت جزئيا بريقها، وفقد معه “الصحفي البيه”، وزنه وقوته، إما لعدم إلمامه بسلاحه الذي يمسكه، أو لجهله بقوة ما يملكه، لأنه “واخدها شغلانة ياكل منها عيش”.
في وسط صالة التحرير الكبيرة لإحدى الصحف الخاصة، كان يجلس “صاحب سايبر نت”، زميل جديد للمحررين في قسم الديسك المركزي، وعندما عرفه أحدهم وسأله مستغربًا: “أيه اللي جابك هنا يافلان”؟ رد عليه الزميل الموقر: “أنا معاكم هنا”.. وكان يعتقد الأخير أن يعمل بقسم الـ “IT”، لكنه فوجئ أنه أحد أعضاء الديسك المركزي للصحيفة، وليس عيبًا في ذلك إن كان موهوبًا، لكنها الطامة الكبرى التي أثقلت كاهل المهنة، وأوجعتها في مقتل إن “اللي ميعرفوش فيها اشتغلوها”.
“الأنسة الجميلة كتبت إن البرد قارص لأنها تعودت على ذالكا، وقالت لي إنشاء الله ستحسن من طريقت كتابتها وتتعلم كيفا تكتب”.. المأساة في جملتي السابقة كبيرة لأنها مليئة ولك أن تتخيل أن يكون بعضهم صحفيًا وكذلك يكتب.
يُحزنك عندما تجد أحدهم يكتب بهذه الطريقة السابقة، أو مقالًا، دون أن يدري أنه قائدٌ للرأي العام، ومثقفٌ للعامة من الناس، وبه من الأخطاء الساذجة ما يحملك على أن تحذفه من قائمة الأصدقاء، أو تستبدل تعريفه على هاتفك المحمول بكلمة “محولجي”، بدلًا من لقب “صحفي”.. فلتكمل في طريقك طالما ترتدي “تيشيرت” ألوانا أثناء تغطية العزاءات، أو تجري حوارًا صحفيًا مع مسؤول مهم بـ “بنطلون مقطع” و”كاب”.
زميلي العزيز وزميلتي الموقرة، بداية احترام الآخر لنا، لباقتنا، وهندامنا، وأداؤنا المشرف، وما نعبر عنه، ونقوله وليس ما نملكه، ونرتديه، ومن نعرفه.