“القاهرة 24” يعايش تجربة الفحص بالمركز النفسي لمستشفى الدمرداش (صور)
قد تشعر في لحظة ضيق أن الطريق بات بلا ضوء يلوح في الأفق، يسوده ظلام دامس من كل جانب، وأنك تسقط وحيدًا دون يد تمتد لانتشالك من آلامك، الأمر الذي يدفعك نحو إما محاولة النجاة عبر زيارة طبيب نفسي، أو اليأس من الحياة والتفكير في الموت منتحرًا.
في الآونة الأخيرة، شهدت مصر العديد من حالات الانتحار، لأناس يأسوا من حياتهم دون أن يساعدهم أحد في العلاج من مرضهم النفسي الذي عانوا منه، على الرغم من وجود العديد من منافذ العلاج النفسي التي قد لا يعلم المصريون عنها شيئًا، وتبدو كعالم غامض في تفاصيله، ومن بينها مركز الطب النفسي بمستشفى الدمرداش.
في تمام العاشرة وسبع وخمسين دقيقة في الرابع من ديسمبر الجاري، انطلق “القاهرة 24” إلى مستشفى الدمرداش، لإجراء معايشة لرحلة كشف نفسي داخل المستشفى، ولنقل أجواء الفحص الطبي للمريض النفسي واقعيا خلال رحلة علاجه وتشخيصه وتلقيه العلاج.
بحثنا كثيرا داخل أروقة المستشفى وردهاتها حتى نصل لمركز الطب النفسي، حيث سرنا طريقًا طويلًا على أحد جانبيه مبان عديدة لمستشفيات مختلفة التخصص، والجانب الآخر به جراج للسيارات المتراصة التي تسبق مبنى جديد يتم بناؤه بالمستشفى، مررنا به عدة مرات ذهابًا وإيابًا للوصول للمركز، وفي كل مرة يخطئ الناس في تحديد الوصف الدقيق للمركز.
كنا بالقرب من مركز الطب النفسي بالمستشفى في تمام الساعة 11.5 صباحًا، وتحديدًا داخل منطقة العيادات الخارجية حتى نقطع تذكرة الكشف داخل المركز، لترد إحدى العاملات “روحي عند مدام نجلاء”، وبالبحث عن مدام نجلاء وجدناها تتناول طعام الإفطار مع زميلاتها داخل غرفة بحديقة الطفل بالمركز، طلبنا منها قطع تذكرة، فأجابت: “مينفعش تدخلي للطبيب مباشرة، حددي ميعاد الأول وتعالي فيه، وكمان حاليًا العيادات قفلت”، ثم حددت ميعاد وكتبته داخل الدفتر أمامها، وأعطتنا ورقة مرفق بها ميعاد العرض على الطبيب النفسي وهو 26/12/2019 القادم في تمام الثامنة مساءًا.
الموظفة داخل المركز لم تسمع لطلبنا بضرورة رؤية طبيب نفسي، بل وحددت موعد للكشف بعد 22 يومًا، يكون فيها المريض النفسي قد اتخذ قراره بالانتحار ربما.
ما لبثنا بضع دقائق حتى عدنا نسألها عما إذا كان هناك إمكانية لمقابلة الطبيب في وقت أقرب من المحدد، فالحالة المرضية لا تسمح بكل هذا التأخير، حتى وجدنا سيدة تصطحب ابنها وتقول لمدام نجلاء أنها قد حجزت وكان من المقرر مقابلة الطبيب يوم 24/11 الماضي، لكن ظروف قاسية منعتها من الحضور، فأخبرتها العاملة أن ميعادها قد فات وعليها المجئ بعد 3 أشهر من الآن.
نظرًا لبعد الميعاد المحدد لنا، قمنا بالتوجه لقسم الاستقبال داخل المركز النفسي، وذلك بعد “لف” استغرق ثلث ساعة للبحث عن مكتب قطع التذاكر، فليس عليه أي علامات تشير إلى أنه مكان يرتاده الناس لقطع التذاكر، غرفة صغيرة نائية في أقصى المركز أمامها جزع شجرة ضخم وعلى يسار باباها قطعة صغيرة من أرض مفروشة بسجاد قصير يصلي عليه الناس، وأمامه غرفة للعلاج الجماعي للإدمان، ولكنها كانت عيادة استقبال مرضى الطوارئ بالمركز.
وبعد انتظار موظف قطع التذاكر بالمركز لحوالي ربع ساعة والذي حرص على تقديم الابتسامة للحالة طوال مدة تدوين البيانات، قطعنا تذكرة تحمل رقم “027015”، حيث لم تقطع التذكرة إلا بوجود ضامن مع الحالة، وبعد التدوين أخذنا التذكرة في تمام 11.41 صباحًا، وأخبرنا الموظف أن ننتظر دورنا بعد 10 حالات، “أقعدوا برا هننادي عليكم لما يجي دوركم”، الموظف مضيفًا.
وعلى الرغم من معرفة أحد العاملين بالمركز بالحالة المرضية ومحاولته في إدخالها مبكرًا حتى لا تتأخر في الانتظار بالخارج، إلا أن الحالة “محررة القاهرة 24” قد دخلت لإجراء الفحص الطبي في تمام 1.20 ظهرًا داخل عيادة مختلفة عن العيادة الأولى المجاورة لمكتب قطع التذاكر، حيث أضاف العامل بالمركز للحالة التي يعرفها بشكل شخصي “كان المفروض تدخلوا على 4 العصر لكن أنا هدخلكم دلوقتي، تعالوا ادخلوا العيادة بداخل المستشفى لأن العيادة الحالية هتتقفل”.
وفي تمام 1.28 ظهرًا، دخلنا إلى العيادة وجلسنا في انتظار إجراء الفحص الطبي، وتردد على العيادة أكثر من 5 عاملات و3 أطباء، كلهم يفحصون المكان ويبحثون عن أوراق، وبعد حوالي 11 دقيقة، خرجت آخر عاملة وهي تقول “الدكتور ييجي براحته”، غالقة ورائها باب العيادة الخشبي الذي لا يعجز الهواء عن فتحه بسهولة ويسر، ثم دخلت الطبيبة النفسية في تمام 1.39 ظهرًا، وبدأ الفحص الذي كان نصه كالتالي:-
- الطبيبة: جاية ليه؟
- الحالة: قالولي ممكن تساعدوني.
- الطبيبة: أيه المشكلة اللي خلتك تيجي النهاردة بالتحديد وتكشفي في الطوارئ؟
- الحالة: أنا تعبانة من سنين لكن مع انتشار الانتحار أهلي خافوا وضغطوا عليا إني أكشف، خاصة إني مش بحب أتكلم مع حد.
- الطبيبة: عندك اكتئاب؟
- الحالة: يعني.
- الطبيبة: بتأخدي علاج؟
- الحالة: لا، أول مرة أروح لطبيب نفسي.
- الطبيبة: عندك كام سنة؟
- الحالة: 23.
- الطبيبة: بتشتغلي؟
- الحالة: لا.
- الطبيبة: بتشربي سجاير؟
- الحالة: لا.
- الطبيبة: عندك ضغط أو سكر أو بتشتكي من أي مرض؟
- الحالة: لا.
- الطبيبة: حد قريبك بيتعالج نفسي؟
- الحالة: لا.
- الطبيبة: حاسة إنك تعبانة بايه؟
- الحالة: أعصابي مضغوطة من حوالي 4 سنين.
- الطبيبة: بتحسي باكتئاب في تغيير الفصول؟
- الحالة: لا، حسب المواقف اللي بتعرضلها.
- الطبيبة: بتحبي تقعدي لوحدك؟
- الحالة: أيوه.
- الطبيبة: آخر أسبوعين بالتحديد، بتحسي إنك عاوزة تقعدي لوحدك ومتكلميش حد؟
- الحالة: أيوه.
- الطبيبة: بتأكلي كتير؟
- الحالة: لا، واجبة واحدة.
- الطبيبة: بتستمتعي بالأكل؟
- الحالة: مش أوي.
- الطبيبة: خسيتي مؤخرا؟
- الحالة: أيوه.
- الطبيبة: نومك مضبوط؟
- الحالة: على حسب، مش عدد ساعات محدد.
- الطبيبة: ضربات قلبك بتزيد؟
- الحالة: مش دايما.
- الطبيبة: حاسة إن الموت هيخلصك من كل ده؟
- الحالة: مش لدرجة الموت، لكن نفسي أرتاح.
- الطبيبة: اللي حصل حواليكي مؤخرا وارتفاع نسب المنتحرين هو اللي دفع أهلك يقنعوكي تيجي تكشفي؟
- الحالة: أيوه.
- الطبيبة: لما بتحطي رأسك على المخدة بتنامي على طول؟
- الحالة: لا، بفكر قبل النوم.
- الطبيبة: لما بتصحي جسمك بيكون تعبان ولا نشيطة؟
- الحالة: بيكون همدان، ومعنديش الرغبة أقوم.
استغرق هذا الفحص النفسي حوالي 6 دقائق، تخللتها المقاطعة لعدة مرات من العاملات بالمستشفى، انتهى بتشخيص الطبيبة للحالة بأن بوادر ما لديها هو “أعراض اكتئاب”، ومعه عدة عوامل مساعدة تتلخص في صعوبة التأقلم مع الظروف المحيطة.
وعن العلاج الذي وصفته الطبيبة للحالة، فهو تعديل السلوك وذلك عن طريق عدة جلسات مع الإخصائي النفسي، حتى يتم تعديل الحالة المزاجية للحالة، لتكون مستعدة لتقبل الظروف والتعايش مع الضغوط، وكذلك الدواء الكيميائي الذي من شأنه أن يخفف الأفكار السلبية، ويزيل الإحباط، حتى يأتي بعد ذلك دور الإخصائي النفسي للتأهيل السلوكي للحالة، وأخبرتنا الطبيبة أن نحدد ميعادًا مع العيادات الخارجية لنبدأ التواصل مع الإخصائي النفسي لتعديل السلوك.
وعن الروشتة الكيميائية التي وصفتها الطبيبة، فكانت بها نوعان من الأدوية، الأول هو “Moodapex” وهو دواء يستخدم لعلاج جميع حالات الاكتئاب المزمنة والحالات الملحة التي لا تحتمل تأجيلا، ويساهم في علاج الاضطراب العقلي.
يسبب تناول هذا الدواء زيادة في ضربات القلب بشكل فوق الطبيعي، وكذلك عدم القدرة على التركيز والدوار والأرق، وعدم الانتظام في النوم، ويحدث في أحيان كثيرة كوابيس في الليل، وألما شديدا في الرقبة وفي الظهر والتهابا حادا في المعدة، ويحظر استخدامه مع الذين لديهم أفكار تراودهم عن الانتحار، أما النوع الثاني، فهو نصف قرص من دواء “Remeron”، وهو منوم، يؤخذ مساءً قبل الخلود للنوم.