صبرى الديب يكتب من داخل العمق السورى: “10 أيام وسط مأسى داعش”
“الحمدلله على نعمة الأمان”.. لا تستطيع أن تقول سوى هذا، بمجرد دخولك إلى الحدود السورية، أو وضع قدميك فى أى من مدنها، التى لا تستطيع القطع بأن أى منها أصبح “آمنا” بشكل كامل، حتى فى المناطق التى تم تحريرها، والتى ألم بجميعا “خراب ودمار” أدى إلى نزوح الملايين من فقرائها إلى مخيمات الإغاثة المنتشرة فى أغلب أنحاء البلاد، والتى تفتقد إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأدمية، أو هرب من لديه أموال إلى أوروبا والدول المجاورة، فى ظل مستقبل “مجهول” يسيطر على كل السوريين بالداخل، مع استمرار خيوط الأزمة فى أياد خارجية، مازالت تتحكم فى حاضر ومستقبل البلاد.
وعلى الرغم من قناعتى الشخصية بالرحلة، إلا اننى اعترف، أن الدخول إلى سوريا كان بالفعل مغامرة غير محسوبة، لم امتلك من مقومات الأمان فيها سوى “وعود وكلام” بضمان السلامة.
حيث بدأت الرحلة من مدينة “السليمانية” بمنطقة كردستان العراق، على الحدود العراقية الايرانية، فى إتجاه الحدود السورية مع تركيا، مرورا بعشرات المدن والقرى العراقية أبرزها “اربيل ودهوك” فى طريق يمتد لنحو 700 كيلو متر، قطعناه فى نحو 5 ساعات، حتى قرية “السويدية” التى تعد اقرب نقطة فى الحدود السورية.
ونظرا لخطورة الأمر، فقد تطلبت الدواعى الأمنية، ضرورة حمل المرافق لأسلحة حديثة ومتطورة للغاية، واستخدام تقنيات تتبع تكنولوجية، والتبديل من سيارة إلى أخرى فى نقاط محددة، حيث كانت نتظرنا سيارة فى كل منطقة، يتم الإنتقال إليها، لدرجة أن المرافق اخبرنى قبل إستقلال السيارة التى ستقلنا إلى داخل سوريا: “أن تلك السيارة من المستحيل أن توقف فى الطريق، سوى فى حالة وفاة اى منا”.
ولا أستطيع أن اصف ما شهدته فى ال 100 كيلو الأخير من رعب، حيث فرض علينا ضرورة المرور فى طريق جبلي وعر للغايه، يحيط به ظلام دامس، وأجواء مرعبة لا تنقطع، لدرجة انه كان من الممكن أن يطلق علينا النار خلاله فى اى لحظة، خاصة من الكمائن الأمنية التى تنتشر على طول الطريق، فى حالة خرق اى من المحازير الأمنية المتفق عليها بين القوات على هذا الطريق، أو عدم التنسيق المسبق مع جهات بعينها، أو عدم التعرف على السيارة فى ذلك الطريق الغير مسموح بالمرور فيه سوى ل 120 شخصية معروفة للقوات التى تسيطر على الطريق “بالإسم”.
وبعد طول إنتظار ورعب، دخلنا إلى سوريا، دون أن يحصل اى منا على تأشيرة مسبقة، أو حتى ختم دخول، لنفاجىء بظلام اكثر حده مما تركناه يسيطر على كل الطرق، وظلت حالة الترقب تسيطر علينا إلى أن استقر بنا الحال فى إستراحة تابعة لإحدى الشركات بمنطقة “رميلان” الحدودية، تناولنا بداخلها بعضا من الماء والشاى، واجرينا عددا من الإتصالات عبر الإنترنت الذي سمح لنا المسئولين بالشركة استخدامة، قبل أن نواصل رحلتنا إلى مدينة”عين عيسى” التابعة لمحافظة “الرقه” والتى كانت مقرنا مقرنا الدائم، ومركز الإنطلاق إلى كل المدن السورية التى قمت بزيارتها على مدار 10 ايام كاملة، ومنها “الجواية – القحطانية -القامشلي- عامودا – درباسية – تل تمر – الطبقة – كوبانى” وغيرها من المدن السورية.
وعلى الرغم من كثرة عدد المدن التى قمت بزيارتها، إلا انك تشعر بأنها جميعها متشابه، سواء فى “مشاهد الخراب والدمار” أو “مشاعر الحزن وحالة الانكسار الداخلى” التى تسيطر على الجميع، نتيجة لفقد الآلاف من أبناء الشعب الأبرياء، خلال عمليات القصف الجوى، والمواجهات مع مليشيات عشرات الفصائل الإسلامية المختلفة، على مدار السنوات ال 6 الماضية، وآخرها ميلشيات “داعش” لدرجة أن كل المدن أقامت فى مداخلها ساحات واسعة تضم الآلاف “مقابر الشهداء” ووضعت على قبر كل شهيد اسمة وصورته، فى مشهد يعكس مدى المأساة التى يعيشها هذا الشعب المسكين، والتى تستطيع أن تلمسها من خلال صور الشهداء التى لا يخلو منها منزل سوري، وملايين القصص المأساوية عن حجم المعاناه والالم التى عاشها السوريين خلال فترات تواجد العناصر الاسلامية المسلحة بالمدن، وأثناء المواجهات التى جرت مع تلك المليشيات، أو خلال القصف الجوي الذى شنته قوات التحالف علىٰ تلك المدن.
وهو ما جعل مشاهد “الدمار والخراب” تكاد لا يخلو منها شارع فى سوريا، لدرجة أن ذلك الخراب قد طال حتى المساجد ودور العبادة المختلفة، والمستشفيات، والمدارس، والمتاحف، والمصانع، والحقول، والصوامع، وملاعب الكرة.
وهو الأمر الذي اجبر ملايين السوريين إلى النزوح هربا من الموت، حيث اضطرت العائلات الفقيرة إلى اللجوء إلى المخيمات التى تنتشر على أطراف أغلب المدن السورية، وتقوم على رعايتها منظمات اغاثة دولية، إلا أن هؤلاء النازحين يعيشون فى ظل ظروف انسانية قاسية، تفتقد إلى الحد الأدنى من الادمية، وسط العقارب والثعابين التى تهدد حياتهم بشكل يومى.
فى حين اضطر الأثرياء، ومن لديهم القدرة على تحمل نفقات السفر، إلى الهروب بعائلاتهم إلى دول العالم المختلفة، تاركين كل ممتلكاتهم لمليشيات “داعش”.
وعلى الرغم من بدء السوريين فى عددا من المدن التى تم تحريرها من مليشيات “داعش” حركة تعمير جزئية، اعتمادا على امكانياتهم الذاتية، والتحويلات التى ترد من ابناء العائلات السورية فى أوربا إلى ذويهم، إلا ان الاف السيارات والمدافع والدبابات المحترقة مازالت تملأ الشوارع، اسفل العمارات المدمره، منها سيارات مدون عليها شعار “داعش” على رغم من تجميع السلطات لآلاف السيارات فى ساحات ضخمة فى مداخل المدن المختلفة، أطلق عليها “مقابر السيارات”.
المعارك على أرض الواقع
اما عن حقيقة الاوضاع العسكرية على الأرض فى جميع أنحاء سوريا، فالواقع يؤكد أن أن النظام السوري، من خلال قوات الجيش الوطنى السورى، نجح فى السبطرة على نحو 65% من أراضى الدولة السورية، حيث احكم قبضته على كامل العاصمة دمشق، ومحافظات “حما وحمص و السويداء وحلب وتدمر” .
قوات سوريا الديمقراطية
أما فى منطقة الشمال السورى، فالواقع على الأرض يؤكد أن “قوات سوريا الديمقراطى” تسيطر بشكل فعلى على كافة اراضى المنطقة، والتى تضم ثلاث محافظات هى “الجزيرة
و الرقه وكوبانى” وتضم مدن “ديرك – القامشلى – عامودا – درباسية -سمالكة” وحتى محافظة “كوبانى” حيث تمثل تلك المساحة بين 27 و 30% من ارضى الدولة السورية.
وتعد “قوات سوريا” الجناح العسكري ل “مجلس سوريا الديمقراطية” وهو تجمع سياسى تم تكوينه فى عام 2015 بعد نجاح القوات التى تكونت من شباب عدد من الاحزاب العربية والكردية والمسيحية وايزيدية بمنطقة شمال سوريا، والتى تكونت تحت مسمى “حركة المجتمع الديمقراطى” فى تحقيق إنتصارات كبيرة على الأرض، وحماية المنطقة من المليشيات التى الاسلامية المتطرفة التى تدفقت إلى مدن الشمال السورى عبر الحدود السورية مع تركيا.
ويضم”مجلس سوريا الديمقراطى” أكثر من 20 حزبا من أحزاب الداخل، و 11 حزباً من أحزاب الخارج، إلى جانب عدد من منظمات المجتمع المدني، وعدد من القوى المجتمعية والسياسية والحقوقية، وشيوخ العشائر.
وقد تمكن المجلس إلى جانب نجاحاته العسكرية، من تكوين “إدارات حكم ذاتية” لكل المناطق المحررة، تتولى تسيير كل الأمور الإدارية والخدمية بتلك المناطق، بعد حل كل تلك الإدارات من قبل الدولة، بعد إشتعال الأحداث فى المدن السورية فى عام 2011.
ورغم النجاح الذى حققه “مجلس سوريا الديمقراطى” على الأرض، إلا أنه لا يهدف إلى الإنفصال بالمنطقة، وقد اعتبره النظام السورى “فصيلا وطنياً خالصا، هدفه الدفاع كامل التراب السورى، ولا يحوى بين طياته ايه قوات أو فصائل اجنبية” كما أبدى النظام من خلال تصريحات للرئيس السوري “بشار الأسد” ووزير الخارجية “وليد المعلم” والمستشار السياسي للرئيس السورى”بثينه شعبان” عن استعدادة للتفاوض مع “المجلس” إلا أن هذا لم يتم حتى الآن، سوى فبما يتعلق بالمسائل الخدمية والادارية بالمناطق التى يسيطر عليها المجلس، مثل السدود والكهرباء ورواتب الموظفين.
المعارك العسكرية
اما عن المعارك والمواجهات العسكرية على الارض، فيمكن القول أنها مازالت تدور فى نحو 10% من الارضى السورية فقط، وتحديدا فى منطقه “الشمال الشرقى لحماه” إلى جانب معارك طاحنه فى شمال “اللاذقية” أسفرت خلال يوم واحد من الأسبوع الماضي، عن مقتل نحو 25 جنديا من قوات الجيش الوطنى السورى.
كذلك مازالت معارك شرسة تدور بين الجيش الوطنى السورى وعناصر مليشيات “داعش” فى منطقة الريف الشرقى ل “دير الزور”.
ومعارك قوية اخرى تدور بين قوات الجيش الوطنى السورى ومليشيات داعش فى مدينة “البوكمال” التى تقع بالمنطقة الحدودية مع العراق.
ومازالت محافظة “ادلب” التى تقع فى الشمال الغربى لسوريا يسيطر عليها بالكامل فصائل إسلامية مختلفة، من داعش وجيش الإسلام، وعشرات الفضائل الإسلامية المسلحة التى هزمت فى المعارك بالمدن السورية، وتم ترحيلهم بموجب اتفاقيات مع النظام السورى إلى محافظة “ادلب” التى باتت المأوى الأول لكل الإرهابيين في سوريا، لدرجة أن البعض قد عدد المليشيات المسلحة بالمحافظة بين 30 و 50 الف ارهابى.
ومازالت المليشيات المدعومة من تركيا أيضا تسيطر على مدن “عفرين وعزاز وجرابلوس والباب و مارع” ومازالت تلك المليشيات تقوم بتهجير الأهالى قصرا، ويرفعون صور الرئيس التركى “رجب طيب أردوغان” والعلم التركى، فى تلك المدن ليل نهار.
اقتصاد متدهور
أما عن الأحوال المعيشية للمواطن السورى، فيمكن وصفها بالكارثية، حيث تعانى البلاد من نقص وتردى كبير فى “المياة” والتى غالبا اما مقطوعة أو تأتى بشكل ضعيف جدا، إلى جانب أنها ملوثة ويغلب عليها اللون الأصفر، وكذلك “الكهرباء” التى تعمل بعشر الطاقة التى كانت عليها فى عام 2011 بعد قيام عناصر داعش فى تخريب وتدمير اغلب الشبكات فى المدن، وقطع تركيا لمصادر المياة عبر انهار “الفرات والجلال ودجلى وسقشاق” والتى جعلت السلطات تضطر الى تخزين المياة لمده 12 ساعة على الاقل يوميا، لتتمكن من تشغيل التربينات، وتوزيع القدرات المحدود المولده من الكهرباء على المناطق لعدد محدود من الساعات على مدار اليوم.
كما تعانى البلاد من “تضخم” رهيب، نتيجة للانهيار الرهيب فى الاقتصاد السورى، حيث ارتفع سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار بشكل كبير، وصل الى نحو 450 ليرة فى مقابل الدولار الواحد، بعد أن كان قد وصل خلال الشهور الماضية إلى نحو 700 ليرة فى مقابل الدولار، وهو ما انعكس بشكل سلبى رهيب على أسعار كل السلع بالاسواق، والتى ارتفعت بشكل يصل إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل اشتعال أحداث العنف فى سوريا.
هو ما انعكس أيضا على أسعار السلع الأساسية بشكل بشع، حيث ارتفع سعر كيلو السكر من 35 إلى 250، وسكر كيلو الأرز من 35 إلى 350 ليرة، ووصل سعر البيضه الواحده من 5 إلى 50 ليرة.
فى الوقت الذى يؤكد الواقع الفعلى أن الأسرة السورية المكونة من 5 أفراد تحتاج ما بين 200 و 250 ألف ليرة شهريا، أى ما يتروح بين 400 و 450 دولار، فى حين دخل الموطن السورى مايزال يتراوح بين 30 و 40 ألف ليرة شهريا، اى ما يعادل 100 دولار، وهو ما يعكس الحالة المأساوية للشعب السورى.
الغريب أنه على من رغم الظروف المعيشية الصعبة التى يعيشها الشعب السورى الشقيق، إلا أن أغلب من قابلتهم من المواطنين بالمدن السورية يؤكدون، أن تردى مستوى المعيشة لم يعد يشغلهم، بقدر ما يشغلهم عودة “الأمن” الذى افتقدوه، على مدار السنوات ال 6 الماضية، والدى جعلهم يفقدون منازلهم واعمالهم والآلاف من ذويهم.
يبقى القول أن الوضع العام من الممكن أن يتحسن فى زمن قياسي وبشكل سريع، إذا ما تم استغلال العزيمة الجبارة، والرغبة العامة فى تغيير الواقع، التى تعم اغلب المناطق، خاصة فى الشمال السورى، بعد تحريره بشكل شبة كامل، وبدء إدارات الحكم التى شكلها “مجلس سوريا الديمقراطى” فى العمل على إصلاح ما أفسده الماضى على قدر الامكانيات المتاحة.
ورغم ذلك يبقى المستقبل فى سوريا “مجهولا” ويسير نحو الخراب، فى ظل وجود أطراف دولية تتحكم بخيوط اللعبة فى البلاد، ولا يهمها فى المقام الاول سوى مصالحهم فى سوريا، وعلى رأسها “روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وإيران وإسرائيل” دون النظر لما أصاب الدولة من دمار، وما يعانية المواطن السورى
المسكين، من ظروف أمنية ومعيشية وصحية وتعليمية غاية فى السوء، وشبح الموت الذى يخطف يوميا عشرات الأبرياء من ابناء الشعب المسكين.