“صالونات ثقافية”.. من هنا نبدأ
اللافت بحق عام 2019، أن هناك ظاهرة إيجابية تستحق التوقف أمامها بالدراسة والتفكير والإشادة، وهي “الصالونات الثقافية”.
ربما المتابعون للحركة الثقافية قد لاحظوا هذا الكم الكبير من الدعوات إلى حضور هذه الصالونات، على مواقع التواصل ورسائل الهواتف، والتي أراها جزءا من حيوية وتدفق الدماء في المجتمع المصري، وحراكًا مطلوبًا يرادف التحولات التنموية التي تشهدها مصر الآن. فالقضية التي يجب أن تعمل عليها كل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في الوقت الحالي هي قضية الوعي، وهي مطلب تنموي قبل أن تكون مظهرًا من مظاهر الرفاهية، فتنمية الوعي الجمعي تساعد الدولة المصرية على المضي نحو مخططها التنموي وفق إرادة شعبية متفهمة لطبيعة المشروعات العملاقة التي تستهدفها المرحلة الحالية، وهي في الوقت ذاته تواجه كل موجات الأكاذيب التي تطرحها الفضائيات المعادية لمصر والمنصات الإلكترونية التي تديرها وتحركها الجماعة الإرهابية.
كنت أسعد الناس بتلقي عدد كبير من مثل هذه الدعوات خلال العام المنقضي؛ للمشاركة في سلسلة من الصالونات، كل منها يمثل إضافة حقيقية، وإن كان بعضها يحتاج إلى مزيد من الدعم للاستمرار ، وهذا يتوقف في المقام الأول على مدى إيمان القائمين على هذه الصالونات بأهمية الحوار واحترام الرأي الآخر ومساحات الخلاف المشروعة، حتى وإن تطرق الحديث إلى بعض النقد هنا أو هناك وهو ما أراه دليلاً على الحيوية ولا شك في ذلك.
اللافت للنظر أيضًا، أن غالبية هذه الصالونات ترتكن إلى فكر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وهو أحد الرواد الذين أحدثوا ثورة فكرية وتنويرية واكبت مرحلة الحراك المجتمعي الكبير الذي أحدثته ثورة 1919، إضافة إلى أنه واحد من أكثر الأدباء الذين جددوا الأدب العربي.
أحد هذه الصالونات كان “صالون طه حسين الثقافي” الذي تدير فعالياته الدكتورة دينا محسن ، وهو صالون شبابي يطرح أفكارا جديرة بالاحترام ،ويستضيف عددًا من رموز المجتمع في مختلف المجالات.
على الجانب الآخر يستعد عدد من رموز المجتمع والعلماء لإطلاق صالونات جديدة مع مطلع العام الجديد 2020 ومنهم الدكتور حسام بدراوي بمقر الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية ، وقد اختار كتابًا للحوار حوله سبب جدلًا كبيرًا وقت صدوره عام ، وهو “في الشعر الجاهلي” للدكتور طه حسين، وأثار الكتاب معارضة شديدة لأنه يقدم أسلوبًا نقديًا جديدًا للغة العربية وآدابها، يخالف الأسلوب النقدي القديم المتوارث. هذه المعارضة قادها رجال الأزهر، واُتهم طه حسين في إيمانه، وسحب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه. الجديد في هذا الصالون وفق ما حدده د. بدراوي أن الحضور سيكون لعشرة أفراد فقط ، بينما المناقشات كلها تدور عبر الواقع الافتراضي على شبكة الإنترنت.
من بين الصالونات التي ستنطلق مع مطلع العام الجديد، هو “صالون الأربعاء” الذي دعا إليه الدكتور أشرف سالمان وزير الاستثمار الأسبق، وحدد له رؤية واضحة لتبادل الآراء في القضايا التي تهم الدولة المصرية ، وفي مقدمتها قضية الوعي. قبل قرن ونصف من الزمان عرفت مصر “الصالونات الثقافية” بصورتها الحديثة، عندما دعت إحدى الأميرات من الأسرة الخديوية وهى “نازلى فاضل” إلى عقد صالون بمنزلها،يلتقى فيه عدد محدود من الزوار من أهل العلم والفن والأدب من مصريين وأجانب.
ربما كانت تحمل فكرة الصالون صبغة سياسية، حيث إنها كانت تنتمى إلى فرع من الأسرة الحاكمة كان يدعى أحقيته بولاية العرش، لذلك ناوأت الخديو إسماعيل كثيرًا وهذا يفسر سر علاقتها القديمة بجمال الدين الأفغانى خلال فترة وجوده بمصر! الخطير أن هذا الصالون جمع كل المتناقضات والأفكار التي صاغت مستقبل مصر بعدها ، فقد كان من بين رواده اللورد كرومر والمحامي الشاب سعد زغلول ، الذي أعجب كل منهما بأفكار الآخر، حتي أن كرومر أكد في حفل رحيله عن مصر أن هذا الرجل – يقصد سعد – سيكون له شأن آخر! ..وقد كان.
مصر ستتقدم بكل فكر.. مصر تحتاج إلى حوار دائم ومتجدد.. وأنا على يقين من الدولة المصرية ستكون أول من يرحب بذلك.