وجودك.. فِعلك!
كان النبي يوحنا المعمدان يحثّ الجموع التي أتت لتعتمد على يديه قائلاً: “…أَثمِروا إذاً ثمراً يَدُلُّ على توبتكم، ولا تُعللوا النّفسَ قائلين: إن أبانا هو إبراهيم” (لوقا 8:3). كثيراً ما نتغنّى بأجدادنا وآبائنا وتاريخهم المُشَرّف الحافل بالإنجازات دون أن نُكْمل مسيرتهم وأعمالهم الفاضلة، لكن قيمة الإنسان بما يفعله هو، لا بما كان عليه الآباء والأجداد، فالفخر بما فعل هؤلاء والتغنّي بمآثر أولئك دون السعي إلى الاستمرار على منوالهم، إنما هو دليل عن الضعف والخمول والكسل، إذاً قبل السعي للزهو والاعتزاز، وقبل التعبّد لصنم المجد الكاذب؛ يجب علينا القيام بواجباتنا.
ومَن يرد أن يتحلّى بالشرف والكرامة، يجب عليه أن يمتنع عن أي فعل يتعارض ويتنافى مع الأخلاق النبيلة وما لا يرضى به ضميرنا، كما يجب ألا نكتفي بالأعمال الحسنة علانيةً فقط، ولكن يجب أن تكون في السر أيضاً، لأن ضميرنا يلازمنا أينما كنّا، وبما أن الضمير هو صوت الله في داخلنا، فمن يخونه، يخون ربّه، وتصل به النتيجة أن يمهّد الطريق لخيانة الآخرين، ونقضي بذلك على الفضائل الإنسانية الموجودة فينا وفي الغير. عندما سأل المعجبون بالفيلسوف والرياضي فيثاغورس: “مَن الذي يَسْلَم من معاداة الناس ومضايقتهم؟!” أجاب: “الذي لا يُصدر منه خيراً ولا شراً!”- فسألوه: “وكيف تُفسّر لنا ذلك؟ فقال: “لأنه إن صدر منه خيراً، عاداه الأشرار؛ وإن صدر منه شراً، ابتعد عنه الأخيار”.
مما لا شك فيه أننا لا نستطيع أن نتخيّل أحداً في استطاعته أن يعيش في المجتمع أو وسط الناس دون أن يصدر منه خيراً أو شراً، لأن الإنسان العاقل وصاحب الإرادة الصالحة لا يستطيع أن يعيش مثل هذه الحياة، إذ لا يوجد كائن بشري يقف على الحياد بين الخير والشر، لأنه يجب على كل واحدٍ منّا أن يختار بين عمل الخير أو الشر، بين الصلاح أو الفساد. والإنسان الشريف يتحلى بالفضائل مثل الإخلاص في السر والعلانية، والعدل بين الجميع في حالتي الرضى والغضب، والأدب والأخلاق في معاملة الناس، والوفاء بالوعد، والدفاع عن المسكين والضعيف، والتواضع والوداعة وتجنب كل ما هو مُشين، وكما نقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: “في جميع أمورك كُنْ سيداً، ولا تجعل عيباً في كرامتك” (33: 23). مما لا شك فيه أن مَنْ يتحلّى بفضيلة الشرف والأخلاق، سيمتلك الشجاعة لتوبيخ مَنْ يهين الآخرين أو ينمّ عليهم ولا يصدّق كلامه، كما أنه يصفح عمن يقول فيه سوءاً. وقد لخّص المهاتما “غاندي” زعيم الهند وتاج فخرها، في برنامج عملي أهمّ ما يجب أن نمارسه من فضائل تكسبنا المروءة يوماً بعد يوم، حتى أنه كان يبدأ يومه قائلاً: “لن أخاف أي إنسان على الأرض، لن أخاف إلا الله وحده، ولن أحمل الحقد لأي إنسانٍ كان، لن أخضع للظلم أينما جاء، سأنتصر بالحق على الباطل، وفي مقاومتي للباطل، سوف أحتمل راضياً ما ألاقيه من آلام، واستبدل الأنانية الموجودة في داخلي بالمحبة الصادقة”.
كم هو رائع تطبيق هذا البرنامج في حياتنا اليومية حتى نعيش في سلام ووئام وسعادة مع الجميع، لأن الحفاظ على كرامتنا يقتضينا الامتناع عن أي عمل أو قول بذيء والخيانة والسرقة والنميمة والغش، ومن سمات حفظ الكرامة واحترام الذات، أن نتذكر جيداً بأننا لسنا عبيداً لأحدٍ، وخلاف ذلك سنرضى بأن يتحكم فينا أي إنسان، ويرغمنا على تنفيذ أوامره والقيام بأشياء تخالف ضميرنا. والإنسان الشريف يتصرّف بوحي ضميره وبما يليق بكرامة ذاته، ولا يقوم بهذا أمام الناس فقط، لأنه خلاف ذلك سيترك ويتخلّى عما يُمليه كرم الأخلاق أو الواجب. كما يجب أن نكنّ كل احترام وتقدير لأعمال الغير أياً كان بشرط أن تكون حسنة وخيّرة، فلا نهدر حق إنسان حتى لو كان يعادينا، ولا ننسب لذاتنا ما يعمله الآخر أو يستحقه من مديح، لأن المنافسة في ميدان الخير حبّاً بالله هي فضيلة الفضائل، لكن الحسد والتحقير والانتقاد فهي رذيلة الرذائل. إذاً فالشرف هو مجموعة الفضائل، وبمقدار ما يتحلّى الإنسان بخصال حميدة، سيزداد مروءة واحتراماً، أي يزداد عظمة وتقديراً في عين الله والآخرين. كما يجب على كل واحدٍ منّا أن يبدأ باحترام نفسه قبل أن يطالب الناس باحترامه. ونختم بكلمات الشاعر العربي: “أنت لستَ الثياب التي ترتدي ولستَ الأسماء التي تحمل
ولستَ البــلاد التي أنبتتـــــك ولكنك أنـــتَ، ما تفعـــــل”.