في مواجهة “فيروسات الجهل”
لعل أبرز ما في مصر عبر تاريخها الطويل هو التنوع، الذي أفرز شخصية متفردة كان لها -ولازال- التأثير المحوري الكبير في محيطها.
في العام الماضي احتلفت مصر بمئوية الثورة المصرية عام 1919، التي أحدثت نقلة كبيرة في ضمير هذا الوطن، أو كما وصفها الكاتب الكبير الراحل مصطفى أمين بقوله: “ثورة 1919 هى ثورة شعب، كل الشعب، ليست ثورة طائفة أو طبقة، العامل والباشا حاربا فيها جنباً إلى جنب، الفلاح وصاحب الأرض علقا فى مشنقتين متجاورتين، المسلم كان بطلاً والقبطى كان بطلاً، فمن مفاخر سعد زغلول زعيم الثورة، أنه استطاع أن يوحد بين الأقباط والمسلمين فى مصر”
ومن أسرار هذه الثورة العظيمة التي نحتفل بعد أيام قليلة بمرور 101 عام على اندلاعها، أنها أدركت منذ يومها الأول قيمة “القوة الناعمة”، فخرج الإبداع من العقول موازياً للهتاف بالحرية والاستقلال من الحناجر والأفواه.
هذه هي مصر بحيويتها وتدفقها، والعبقرية التي تسيل في عروقها، عبقرية لا تعرف التمييز أو الإقصاء، عبقرية تحترم كل فكر ورأي. وما أصاب هذه الأمة بعد ذلك هي مجرد أمراض دخيلة، و”فيروسات” بعيدة كل البعد عن الجسد المصري، ” فيروسات الجهل” التي عطلت تقدم هذا البلد على مدار عقود طويلة، وفي مقدمتها فيروس “الإسلام السياسي” الذي أدخل مصر في دائرة مفرغة على مدى أكثر من ثمانية عقود!
عظمة الفن المصري الحقيقية، كانت في ذلك التحول الكبير والإيمان بالقضية قبل وبعد 1919، فسيد درويش البديع ، الذي قدم فناً هابطاً في بعض الأحيان قبل الثورة وخلال سنوات الحرب العالمية الاولي، ونجده وقد تحول إلى “زعيم” في مجاله بعد الثورة.
يقول العبقري بديع خيري في حديثه عن درويش: إنني لا أزال أتصور فنان الشعب سيد درويش، ولا يمكن أن أنسى صورته وهو واقف فى إحدى عربات الحنطور في ميدان الأزهر إبان ثورة عام 1919 ينشد أناشيده الوطنية فى حماس مشتعل وخلفه ألوف الناس يرددون اللحن معه ويعرضون صدورهم لرصاص الإنجليز، وتجمع عدد كبير فى العربة فتحطمت إحدى عجلاتها , وأخرج سيد درويش محفظته من جيبه وحاول أن يقدم للحوذي تعويضاً منا، ولكن هذا الحوذي قال محتجاً: كيف تفعل هذا يا سيد.. أننا هنا نعرض صدورنا لرصاص الإنجليز إعلاء لكلمة وطننا ونعرض أرواحنا للدمار …فهل تعطيني تعويضا عن عجلة تحطمت ..لا .. لا يا سيد!.
ولم يكن درويش وحده زعيماً في مجاله ، كانت مصر كلها “زعماء ” في كل الميادين، فعقب قطع مفاوضات عدلى – كيرزون عام 1921, وضحت نوايا الإنجليز فى العدوان على مصر, فكتب شاعر النيل حافظ إبراهيم قصيدته الخالدة (مصر فوق الجميع) وأنشدتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم فيما بعد، والتي عُرفت بأسم ” مصر تتحدث عن نفسها”: وقف الخلق ينظرون جميعا.. كيف أبنى قواعد المجد وحدي.
وبناة الأهرام فى سالف الدهر.. كفوني الكلام عند التحدي.
إن مصر الآن في أكبر مواجهة مع “فيروسات الجهل”، ربما في ظروف أعنف بكثير من تلك التي واجهتها قبل مائة عام من الآن، فالخطر الآن لا يأتي من العدو وحده، ولكن الخطر الأكبر -للأسف العميق- من الذين يعيشون بيننا متربصين بهذا الوطن وطموحاته، شاهرين كل أسلحتهم في مواجهة أي تقدم، مشككين في أي عمل، منددين بأي تصرف حتى لو مدروس وفي صلب مصالح الأمة.
مصر لن تتقدم إلا بوعى كامل وشعب محصن ضد هذه الأمراض المتوطنة.. مصر لن تتقدم إلى الأمام إلا بمواجهة حقيقية مع “فيروسات الجهل”!