امنحوا “الزاهد” وسام الجمهورية
قيل عن المسيح إنه كان يجول يصنع خيرًا، ومُحمد ما أرسل إلا “رحمة للعالمين”، وموسى قبل أن نناديه نبيًا كان معينًا ومُنقذًا لأناس ذاقوا مرارة الظلم والفقر والاحتياج.
لم تكمن عظمة الأنبياء كونهم مصطفين من الله فقط، بل لأن سيرهم كانت سبيلًا لإعمار أرض بالخير والسلام، فاهتدى بها أناس كانوا امتدادًا لأنبياء الله ونورًا يُهدي البشر في ظلام الأرض الحالك.
نسل الأنبياء
خدعوك فقالوا إن زمن المعجزات قد ولى، ولم يبق من المصطفين إلا سيرهم، وسطت الحياة بقبح أوضاعها على حيوات البشر، فلم يعد هناك منقذ أو شخص يُولد من رحم العدم ليصنع حياة أخرى.
في حقيقة الأمر تلك النظرة السوداوية طغت على عقول الناس، فباتوا مستسلمين تمامًا للوضع الراهن، معتبرين أي عمل صالح ممتد من سير الأنبياء ما هو إلا حدث شاذ في واقع يسيطر عليه الأنانية والتجارة بآلام الناس واحتياجا وفقرها، ولكن كم ذا بمصرٍ من معجزات مُلهمة.
الدكتور محمد مشالي، طبيب مصري سبعيني قضى زهاء 50 عامًا بين الفقراء يداوي آلام المرض والفقر والعوز دون أن يُصبح تاجرًا في الداء يكنز منه كنوزًا توفر له حياة رغدة، فصار أحد معجزات مصر، وخير حافظ لسير الأنبياء مهتديًا بطُرقهم النبيلة.
الزاهد
“أنا نشأت فقيرا، والدي الله يرحمه وصاني بالفقراء خيرًا، أنا مش عاوز عربية 10 متر، ولا بدلة بمليون و10 آلاف جنيه، أنا أي حاجة بتكفيني، ساندوتش فول وطعمية بيكفيني.. أنا زاهد”.
تلك الكلمات خرجت من قلب الدكتور مشالي قبل أن تخرج من فاه، ودون أن يعلم أن هُناك كاميرات تُسجل تلك اللحظات للعرض في برنامج “قلبي اطمأن”، ومثلما خرجت من القلب وجدت في قلوب الملايين مأوى وملاذا لتسكنه.
البعض قد لا يعرف سيرة ملاك الرحمة القاطن في طنطا، فالطبيب المصري الذي لُقب بـ”طبيب الغلابة” ظل لعقود يُعالج الفقراء بسعر زهيد، معللًا ذلك بأنه نشأ فقيرًا، يعلم جيدًا مرارة الفقر وألمه، ويُدرك حق الإدراك أن الطب ليس مهنة ترف وثراء بل مهنة إنسانية أولها رحمةً وأوسطها سند وآخرها جبر للخواطر، فآمن بحقوق الإنسان في الدواء، وآمن الناس به بأنه واحد منهم يشعر بآلامهم وملاذ لهم في فقرهم ومرضهم.
التجارة مع الله
“لازم يكون عندنا رحمة بالمريض، مش هنبقى إحنا والزمن عليه، أنا بحمد الله لم أمرض في حياتي، ولم أتعرض لأي مسائل صحية تؤدي إلى ذهابي إلى الطبيب، ممكن يكون ربنا يبارك في صحتي، بسبب عملي مع الفقراء والغلابة”.
ليس للأكفان جيوب يكنز فيها الموتى حصيلة ثرائهم في الحياة، ولكن حصيلة التجارة مع الله باقية في حياة الإنسان على الأرض وحياته الأخرى بعد انتقاله إلى جوار ربه. هكذا هو إيمان الدكتور محمد مشالي، الذي يرى أن تجارته مع الله في الفقراء و”الغلابة” كنزًا وفر له ما يكفي أن يهبه الله الوقاية من المرض والألم، حتى وإن كان لم يدخر مالًا، اتباعًا للمثل الشعبي الشهير “القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود”.
تجارة مشالي مع الله أغنته عن المظاهر الكاذبة التي حرص عليها الكثير من أبناء جيله والأجيال المتعاقبة، فقال بسؤاله عن ظهوره في تكريم له بملابس لا تليق باسمه وتاريخه كطبيب: “معنديش وقت للمظاهر الكدابة دي، المهم الجوهر”.
تكريم وتشريف
في أزمنة تسيد فيها الجشع والطمع والأنانية قلوب غالبية البشر، تبقى أفعال الصالحين ضمانًا الجريان الحياة كما خلقها الله، الأصل فيها الخير، والهدف فيها إعمار النفوس قبل الأرض، و”المحروسة” التي تُقاتل على جبهات عدة، بها صالحًا أفعاله لا تكفيها توثيق الأفلام والمسلسلات، ولا تكفيها مئات المقالات مهما كان صدقها أو تأثيرها في عقول القراء، فـ”مشالي” سيرة باقية وتتمدد طالما كان حيًا – أطال الله عمره- أو حتى بعد مغادرته أرضنا في سفرٍ أبديًا.
في كل مجتمعات الأرض يبحث البشر عن بطل مُلهم يستمدون منه القوة ويلجأون لسيرته في وقت اليأس ويعتبرونه نموذجًا لوطن كما يجب أن يكون، وفي بلادنا العديد من المُلهمين، ولكن الدكتور مشالي “طبيب الغلابة” و”الزاهد” الحق، على رأس هؤلاء المُلهمين، بقدر عدد الأبدان التي داووها، والآلام التي انتزعها من الأجساد، والأمراض التي قاومها مجاهدًا في سبيل الله خير جهاد، منفذًا خير التنفيذ لقول الله: “من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا”.
“مشالي” ليس طبيبًا للفقراء، بل هو ضمير أمة حي يجب تعظيم عمله ليصير نموذجًا للمواطن الصالح والإنسان النبيل الذي يجب أن يهتدي بعمله كل سُكان “المحروسة”، “مشالي” ليس عجوزًا أفنى عمره في مساعدة الوطن والمجتمع على الشفاء فقط، بل أيضًا كان صانع سلام جاهد في سبيل الله وأعان خلقه على الحياة، ليس بالعلاج وحسب، بل وبالتنازل عن حقوقه من أجل منحهم أبسط حقوقهم.
هذا المقال في الحقيقة ليس سردًا لسيرة وأفعال طبيب نبيل، فمن أنا كي أنال هذا الشرف، وماذا قدمت للناس والوطن مقابل الدكتور مشالي؟، بل أنه نداء للقيادة السياسية في مصر، من أجل تكريم الدكتور محمد مشالي بوسام الجمهورية من الطبقة الأولى.
هذا المقال رجاء من مواطن مصري للمسؤولين في بلاده العظيمة، أن يجعلوا من الدكتور مشالي خير نموذج في مبادرة إعادة بناء الذي أعلنت عنها الدولة المصرية في وقت سابق، وأن يمنحوه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى تقديرًا لما قدمه للوطن والمجتمع والناس من تضحيات وإسهامات جليلة، وتشريفًا للأطباء الذين من بينهم من يقاتلون يوما بعد يوم دون راحة من أجل الحفاظ على حيوات المصريين، خاصةً في ظل جائجة كورونا.
السادة المسؤولون، إن الدكتور محمد مشالي حي يُرزق، فأمنحوه ما يستحق عما قدمه لنا جميعًا ليس فقط كطبيب بل كإنسان، وامنحونا أملا في أن نخلق “مليون مشالي” يضعون مصر في المكانة التي كانت عليها قبل آلاف السنين، مهدًا للحضارات ومنارة للبشرية.