ناهد إمام تكتب: دماستي ملأت بأنات كورونا
أثارت لدي قيثارة محمد اقبال التي ملأت بأنات الجوى بعض الخيال فتخيلت أنات لكورونا بسبب ما أحدثه من تغييرات ايجابية في سلوكيات البعض. عندما سألت ابني عما إذا يعتقد أن العالم سيتغير بعد أزمة كورونا، كان رده: سيصبح أكثر نظافة واستهلاكًا للمبيضات ومساحيق التنظيف والتطهير وسيصبح هؤلاء الأكثر ربحًا في السوق، وفقط. ابني الشاب العشريني لم يرى سوى ذلك، ليس لأنه متشائم ولكن لأنه واقعي،وعملي، ويدري عن زمانه ربما أكثر مني، ولأنه هو المستقبل.
وما بين سذاجتى السابقة على رده المتوقعة لتغيرات هائلة، ورده الذي سبب لي الإفاقة أصبحت متفائلة إلا ربع بتغير أخلاقي، اجتماعي، اقتصادي ما أفضل.
مؤسف أن يستبيحنا “وباء” ونظل كما نحن نستبيح بعضنا البعض، وعلى كل المستويات التي ذكرت، وعالميًا.
ماذا تبقى إذا؟! ثمة تغيرات نفسية حتمية ستحدث، وحدث جزء منها بالفعل، وما ذلك إلا لأنها ليست بملكنا.
قبل رمضان بأيام ذهبت إلى احدى فروع T&N “التوحيد والنور سابقًا” لشراء “دماسة” لتدميس الفول في بيتي لوجبة السحور في رمضان بعد امتناع كسول لمدة 20 سنة، أليس هذا تغييرًا نفسيًا، مطبخيًا، عميقًا، وضروريًا؟! المفاجأة أن نساء كثر تغيرن مثلي، اكتشفت ذلك عندما قال لي البائع: ” والله خلصوا ومفيش غير واحدة بس صغيرة هناك أهي”، عاجلته:” معقول كل الكمية وكل الأحجام؟” فرد على بالايجاب:” نعم”. أليس هذا تغييرًا نفسيًا يتعلق بالسلوك المطبخي بسبب كورونا؟! لعل “المطبخ” هو أكثر من تأثر بالوباء، وسلوكياتنا داخله، وعلاقتنا بالطعام. جزء من الأمر سلبي يتعلق بما يسمى بـ”الأكل العاطفي”، حيث اضطرابات الأكل، وارتباطاتها بالحالة النفسية، رغبة زائدة أو زهدًا. كان الشائع بين معظم الناس بسبب “العزل المنزلي” هو الانجرار نحو التهام الطعام باعتباره “الحياة” واللذة الوحيدة المتاحة الآن بسبب كورونا والعزل المنزلي، الطعام الذي يعني “السيروتونين” ذلك الهرمون الساحر، محسن المزاج، في مواجهة “الكورتيزول” المعروف بأنه هرمون الشدة الذي يتم افرازه عند الشعور بالخطر والخوف، إذا فهذا هو المطلوب، وشكرًا لحسن تعاونكم، وإن كانت بعض الأطعمة كالحلويات مثلًا تزيد من الكورتيزول، ولا يمنع من ذلك سوى بعض الوعي الصحي لدى تناول الطعام بتناول ما يساعد على الاسترخاء، وتحسين المزاج والصحة بشكل عام.
أما الجزء الإيجابي الذي حدث لدى البعض ممن لديه الوعي الصحي الأعلى، فهو المتعلق بتناول الطعام الصحي، والطبخ الصحي، للحفاظ على المناعة وتقويتها ضد المرض، بانتقاء أطعمة معينة، وطبخها بطرق صحية، وتنظيفها جيدًا، وقضاء وقت أكبر بدون ضجر في ذلك كله من أجل الحفاظ على الصحة، وما كان الأمر هكذا قبل كورونا.
أمر آخر جدير بالملاحظة هو ذلك الإقبال الواضح على شراء “زينة رمضان”، فقبل رمضان بشهر كان هناك اقبال عادي، ثم ارتفع فجأة قبل رمضان بيوم أو يومين، تخلى المتردد عن تردده، والبخيل عن بخله، والحريص عن حرصه، وغير المهتم سابقًا عن عدم اهتمامه، غني وفقير، وجدتهم يتسابقون على الشراء، ومن كل الأعمار. إنها “الزينة” وإنه “رمضان”، وإنه “كورونا” أيضًا، المرض المفزع، والموت الزاحف، وقيمة الحياة التي تعلو الآن، وتقدير بهجتها، وضرورتها، وأثرها، وأنها لا ينبغي أن تظل “مؤجلة”. أيقظ كورونا داخلنا الوعي بقيمة الحياة، وحقيقة هلاكنا المحتوم الذي طالما ظنناه مؤجلًا فلنعبث قليلًا أو كثيرًا لا يهم. يسحقنا ويسحبنا كورونا عميقًا إلى أقصى نقطة قلق في بحر مخاوفنا الهائج، “قلق الموت”، ويحوطنا بأجوائه الفولكورية الغريبة، المدهشة، كمامات، قفازات، عدد مرات غير متناهي لغسل اليدين، تعقيم لكل شيء، عدم لمس لأي شيء خارج البيت، حبس اجباري في البيت، فالموت خارجه ينتظر أي أحد لا يفرق بين المريض والطبيب. كورونا الآتي بغتة كما الموت، ويحمله، تسبب في تعريتنا تمامًا في مواجهة الموت، وإزاء الموت لابد أن ندرك قيمة”الحياة” ، وهذا النفس الخارج والداخل، فاهتممنا بما يعبر عن ذلك عبر سلوكيات تبدو بدائية، فطرية، ويبقى أن تعلى هذه المواجهة القاسية المتجبرة مع الموت من قيمة الحياة، و”ذواتنا” أيضًا، بالتوقف عن التآمر على الذات، والتغرير بها، وتسويف ما ينفعها، وإعاقتها، وتعطيلها، واعادة اكتشافها ونزع أثواب الزيف عنها. ما أقسى أن نفقد ذواتنا ونحن لم نعرفها، ولم نسعد بذلك. ما أقسى أن نختفي من الوجود، وقد وأدنا ذواتنا طيلة العمر وظننا.. الوجود.