محمود العربي.. كيف تعلَّم من مصطبة جدته قيم العارفين ومدارك الحكماء؟
من خلال حكايات جدته أمام البيت وفقر أسرته الذي جعله ينشغل بحياة الفقراء، تولَّدت لديه رغبة حالمة في معونتهم، فامتلك إحساسًا عميقًا بالإنسان والحياة نبع من شرخ حياته الأول الذي منحه حرصًا فائضًا على كل من حوله، فعلى مصطبة جدته كانت تروي له الحكايات وحكمة القدماء، وطيبة الفلاحين وشهامتهم ومروءتهم، فمن أمام تلك المصطبة كوَّن عالمه وخطط له من خلال تأثره بالزرع وراف الظلال وشجرة الصفصاف على أديم الماء الجاري بالخير، فهذا هو محمود العربي الذي ولد فقيرًا لأسرة تعيش في فقر مدقع، ولكن مع ذلك الفقر كانت هناك قناعة بتلك الحياة، ولذلك لم نجده يومًا ناقمًا على تلك الأيام، بل يذكرها دائمًا بكل الخير في بداية العقد الثالث للقرن العشرين في ١٩٣٢م في قرية أبو رقبة التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، ومن المؤكد أن من ولد في ذلك الزمان من شأنه أن يميط اللثام مبكرًا عن وعيٍّ متيقظٍ وإرادةٍ متحضرةٍ يلخصها “العربي” في مقولته الشهيرة “لقد كبرنًا مبكرًا”، وذلك نتيجة لكبر القضايا التي كانت في ذلك الوقت الذي يعاصره رجال في سن كبير وعقل أكبر، فكان حتمًا على الصبي الصغير أن يكبر مبكرًا.
ولد “العربي” لأب يعمل مزارعًا أجيرًا في أرض غيره، ولشدة الفقر لم يلتحق بالتعليم، ليس ذلك فقط، بل نزل للعمل في الحقول، حيث عمل في تلقيط دودة القطن، وجمعه، ليجمع كل عام ثلاثين قرشًا ليعطيها لأخيه ليشتري ألعاب وبلالين ويبيعها للأطفال في الأعياد، وتُعد تلك التجارة الصغيرة في مجملها الكبيرة في مغزاها وهو “تجارة البهجة، ومع مرور الأيام بين تلك التجارة الصغيرة والعمل الشاق في الحقول، كان يحمل عزيمة وأمانة ورحمة، حيث ظل يسعى هو وصديقه عن ممول يقدما له الخبرة والفكرة، حتى وصلا إلى ممول دعمهما بخمسة آلاف جنيه، نزل على إثرها للموسكي للتجارة في الأدوات المكتبية تحت شعار “البيع الكثير والمكسب القليل”، ومع الوقت تطورت أفكارهم مع زيادة رأس المال، وفي ١٩٦٤م بدأ في إنشاء شركة “العربي للأدوات الكهربائية” مستعينًا بخبرات أهل اليابان الذين تحدوا أنفسهم بعد مقولة أحد حكامهم بعد هزيمتهم العسكرية من أمريكا: “لقد هزموكم في المصنع والمعمل، وعليكم الانتصار عليهم في نفس الجانبين”.
سافر الرجل إلي اليابان كثيرًا حتى نما استثماره الذي قام على فلسفة الاستثمار في البشر قبل الحجر والآلات، فبدأ بعامل واحد مع الاستعانة بشقيقه وصديقه، إلى أن صارت العمالة لديه تزيد عن 38 ألف عامل، و18 فرعا لشركته، فقامت فلسفة تجارته على تقطيع كلمة “تاجر” ليحمل كل حرف كلمة منفصلة من المعاني الأخلاقية، فحرف التاء يعني التقوى، والألف الأمانة، والجيم الجراءة، والراء تعني الرحمة، حتى اقتحم الأسواق بجراءة ومجازفة محسوبة، فعاش الرجل حياته كاملة في جمع المال في يده وليس قلبه، حتى أنفقه على أوجه الخير، فبدأ بلين قلبه في الحفاظ على حقوق عماله في كافة مصانعه المالية والمعنوية، فكان دائمًا يكبر أمام نفسه، ويستصغر عمل الشر من الآخرين فلا يفعله، فانتصر على نفسه أو بتعبير نابليون أن الانتصارات الوحيدة التي تدوم ولا تُخلف إلى أسى، هي انتصاراتنا على أنفسنا؛ فانتصر على الكبر بالتواضع، وعلى البخل بالكرم، وعلى قلبه بألا تشغله الدنيا ولا تفتنه عن حلمه.
يحب أن يرى البسمة على وجوه المتعبين، فانتصر العربي بجعل المال في يديه حتى يسهل إنفاقه كما يقول المتصوفون، أو كما تعلَّم من مصطبة جدته.