محمد فارس يكتب: اقتصاد الأزمة.. أرباح الفرص وخسائر الغلق
منذ أن وطأت قدم الإنسان الأرض، شهدت البشرية عبر تاريخها الطويل كثيرًا من الأوبئة، والتي حصدت أرواح الملايين من البشر في مختلف المناطق حول العالم، لتصبح سببًا في انهيار دول وممالك كانت بالفعل كبيرة، ووفقًا لتصنيف منظمة الصحة العالمية، فإن الوباء هو انتشار مرض جديد حول العالم، ولا يكون لدى البشر مناعة ضده، وهو ما ينطبق على فيروس كورونا، الذي يحمل رقم ثمانية عشر في تعداد الأوبئة التي سجلها التاريخ.
تتسبب الأوبئة في تداعيات اقتصادية كبيرة بفعل التأثير والتعديل الذي تُلحقه بالعادات اليومية للشعوب، حيث تغير من رؤيتهم لكافة نواحي الحياة، لتدعم بذلك زيادة الحيطة والحذر لديهم، وفي المقابل تدعم أيضا البحث في العلوم التي تعد أكثر اهتمامًا بصحة الإنسان.
لقد حملت الذاكرة التاريخية المتعلقة بالأوبئة الكثير من الآلام، مما جعل كافة بلدان العالم تغلق الحدود فيما بينها، ورغم ذلك لم تنجُ دولة واحدة من الإصابة بفيروس كورونا، وهو ما يجعل عالمنا الحالي يشهد الآن أحد أهم المسببات في تغيير مجرى التاريخ مع تحديد مصائر وأقدار الإنسانية طبقا للبوصلة الجديدة.
إن الحفاظ على صحة المواطن بات الهدف الأول بالنسبة لكل الحكومات على مستوى العالم، ليصبح جميعها في موضع الاختبار وإلى أي مدى سوف تتصدى وتجابه، وإلى أين ستصل النتائج التي سيتم بموجبها الحكم على قادة الدول وتقييم السياسات التي استخدموها في التعامل مع الأزمة وإدارة ما خلفته.
وعلى الرغم من إغلاق الدول للحدود إلا أن العالم يسعى الآن إلى تحقيق المزيد من التقارب والتعاون، خاصة في المجال البحثي والصحي لإيجاد مصل من شأنه القضاء على فيروس كورونا، وهو ما يضمن العودة سريعا إلى المسارات السابقة، أملا في ألا تؤدي الإجراءات الاحترازية التي دعت إليها منظمة الصحة العالمية إلى مشكلات اقتصادية أكبر وأعمق، فتأكل نتائج جهود عقود طويلة من النمو.
وتشير النتائج الأولية التي خلفها وباء كورونا إلى أن عام 2020 سوف يكون الأسوأ على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، ليصبح الاقتصاد العالمي بعده منهكًا تماما، ويصير في حاجة شديدة إلى تكلفة ضخمة من أجل العودة، في حين ستدخل بعض الدول في موجة انحسار ما يسمى بآمال التعافي القريب، وهو ما نخشى عليه من المساس بمصر.
إن استمرار الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها مصر منذ بداية الأزمة بشكلها الحالي سوف يفاقم الوضع الاقتصادي وسيؤدي إلى عواقب وخيمة ترمي بالنمو الذي حققه الاقتصاد خلال السنوات الست الماضية، ليس ذلك وحسب بل إن الأمر سيضاف إليه أن عمليات التوظيف والمعايير الخاصة بها ستصبح مرتبطة هي الأخرى بشكل مباشر بمستويات الانكماش التي ستواجهها الدول ومن بينها مصر.
لذلك نخشى من أن يتحول هذا الأمر إلى حقيقة، لأنها ستضيف المزيد من الأعباء على كاهل الموازنة العامة للدولة، مما يعني أن استحداث إجراءات جديدة سوف تكون مؤلمة لفترات ليست قليلة، ليصبح خفض الإنفاق ورفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة قرارات واجب اتخاذها، وهو ما لم يصبح في استطاعة المواطن بوقتنا الراهن تحمله. ما يشهده العالم الآن وفي القلب منه مصر، لا يقل أبدًا عن مستوى معايشة حالة الحرب، حيث يمر الاقتصاد العالمي بأزمة لم تشهده الدول منذ الكساد العالمي عام 1929، لتصبح بعض الشركات العملاقة في مهب الانهيار، في المقابل توجد فرص استثمارية عظيمة دائما وقت الأزمات، لكنها تتطلب قرارات جريئة من الحكومات وهو ما نأمله في الحالة المصرية، لتتعاظم هذه الفرص من خلال عودة الحياة مرة أخرى شريطة استحداث إجراءات احترازية جديدة يلتزم بها المواطن كشريك أصيل في خطة العبور من الأزمة.
لن تكون أزمة وباء كورونا هي الأخيرة بالنسبة للموجات التي تضرب البشرية كل فترة، لكنها سوف تصبح تجربة يولد من رحمها سياسات اقتصادية جديدة، وهو ما يؤكده ما يسمى بالـGreat Lockdown أو الإغلاق الكبير لأغلب القطاعات الاقتصادية على مستوى العالم، وذلك كي لا تتكرر هذا التباعيات مرة أخرة، وأتصور أن مصر بنخبتها الحاكمة حاليا تمتلك القدرة لاستحداث آليات جديدة من شأنها الحفاظ على ما حققته الدولة من مكتسبات اقتصادية قبل ظهور فيروس كورونا، لذلك عليها إلا تلتفت لدعوات استمرار الغلق، حتى لا تنتشر سياسة الاستغناء عن العمالة بالمؤسسات وتسريحها، فنصبح كمن فاته الربيع عندما انشغل بحديقته فقط.