الأربعاء 27 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

التشرد في زمن كورونا.. رحلة 7 ساعات لإنقاذ مُسنة بلا مأوى من أسرة فنية وتتحدث 3 لغات (معايشة)

القاهرة 24
تقارير وتحقيقات
الإثنين 25/مايو/2020 - 10:45 م

في البدء كان الحب، ثم كانت الرحمة، وأنبت الله في القلوب بذور الإنسانية، فصار سلاما بين البشر، وظهر من الصالحين من هم خير معين للناس في ضيقتهم، وخير منجي لهم في أحلك ظروفهم.

من بين هؤلاء الصالحين، شباب يرتدون “الأخضر” الذي يُشير إلى زرع الخير في أرض مصر، يجولون المحروسة باحثين عن أناس لم يكن لهم حظ وافر من الحب، ولم يكن لهم ما يكفي من نصيب الرحمة، فجحد ذووهم ويبست قلوبهم وتركوهم على الأرصفة في الشوارع يواجهون التشرد والمرض وسكرات الموت بمفردهم.

صباح يوم الإنقاذ

الأحد الموافق 17 مايو 2020، اليوم الخامس والعشرين من رمضان، شددنا الترحال إلى حي مدينة نصر، حيث بلاغ ورد إلى رئاسة مجلس الوزراء ووزارة التضامن الاجتماعي، بوجود مُسنة تتخذ من أحد الأرصفة مسكنًا لها وتُعاني من إصابات باليدين والقدمين والوجه، فذهب فريق “أطفال وكبار بلا مأوى” والمُتخصصين في إنقاذ المشردين، لمكان البلاغ بعد 24 ساعة فقط من وروده، لمعاينة حالة السيدة، وبدء عملية إجلائها من الشارع ونقلها لدار مُسنين.

الشمس كانت حارقة، والعرق ينسدل على الأوجه.. الجميع عطشى إثر صيام شهر رمضان، مثلما عطشت تلك المُسنة إلى الرحمة بعد أن ألقاها ذووها في الشارع دون أن تأخذهم بها شفقة أو رحمة.

مكان إقامة مُسنة بلا مأوى في مدينة نصر

مكان إقامة مُسنة بلا مأوى في مدينة نصر

الساعة العاشرة كانت موعد الاستجابة لبلاغ مصطفى هشام الجمل، لاعب منتخب مصر لألعاب القوى، لرئاسة مجلس الوزراء ووزارة التضامن الاجتماعي، بوجود سيدة تُدعى “رحاب” تمكث على الرصيف بجوار محل مسكنه في مدينة مصر، فيقول: “كلمتهم وعملت البلاغ بالليل وخدوا كافة البيانات، ولظروف الحظر ماجوش في أول يوم، وتاني يوم لقيتهم بيتصلوا بيا بيقلولي إحنا عند الحالة”.

وتابع لاعب منتخب مصر لألعاب القوى: “الرائد أحمد، ظابط الكمين، هو اللي جاب الست رحاب من صلاح سالم، وجابلها بطانية وقعدها هنا لما لقيها مشردة في الشارع. وحينما وجدتها تحدثت إليها لقيتها واعية ومدركة، وبتحكي عن المشاكل العائلية وأزمة الفلوس والميراث مع أخوها اللي وصلها للدرجة دي”.

“رحاب” المُسنة التي تُحب أن يطلق عليها “ريري”، ليست كغيرها من المُشردين في الشارع، فهي خريجة كلية الآثار وتتحدث 3 لغات أجنبية وتنتمي لعائلة فنية على حد قولها، فوالدها أحد المُلحنين الذين عاصروا نجوم زمن الفن الجميل مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب، والعندليب عبد الحليم حافظ، ووالدتها مُدرسة موسيقى.

يقول إكرامي حسين، منسق وحدة شرق القاهرة لبرنامج حماية الأطفال والكبار بلا مأوى، إنه في الصباح الباكر توجه  إلى شارع إحسان عبد القدوس، حيث اللقاء بأصدقائه في الوحدة، والذين على موعد للتعامل مع حالة جديدة ، متابعًا: “كنا موجودين في مكان إقامة الحالة الساعة 10 الصبح، وبدأنا في الإجراءات”.

الإجراءات بدأت بعمل نظافة مبدئية للسيدة قبل نقلها للمستشفى، كما يقول إكرامي، متابعًا: “كان لابد من عمل نظافات شخصية لأن السيدة من فترة وهي تفترش في الشارع وكانت تهمل نظافتها”، ولإتمام المهمة استعان إكرامي بالسيدة “راوية” سيدة خمسينية، كانت تراعي “رحاب” فترة إقامتها بالشارع، وهي إحدى عاملات النظافة بشركة بالقرب من الرصيف الذي تعيش أعلاه السيدة “رحاب”.

نقل المُسنة من الشارع إلى مستشفى الحميات

نقل المُسنة من الشارع إلى مستشفى الحميات

شمس الظهيرة ومسحة الفيروس

من العاشرة صباحًا وحتى الثانية عشرة ظهرًا، كان فريق الإنقاذ التابع لوزارة التضامن الاجتماعي يرتب لعملية نقل “رحاب” من الشارع إلى المستشفى حتى يتم إجراء تحاليل فيروس كورونا لها، تمهيدًا لإيداعها أحد دور رعاية المسنين.

3 شباب وسائق تركوا منازلهم صباحًا متخذين كافة الإجراءات الوقائية لمواجهة فيروس كورونا، حرصوا على إحضار ثياب جديدة للمُسنة وهندمتها بشكل يليق بها، ثم حملها على كرسي متحرك إلى داخل عربة الإنقاذ تمهيدًا لنقلها لمستشفى حميات العباسية.

من الثانية عشرة  وحتى الساعة 2:30 ظهرًا كان الفريق يجوب مستشفى حميات العباسية لإجراء تحاليل فيروس كورونا لـ”رحاب”، لتكون أول حالة يتم إنقاذها من الشارع وتُجرى لها مسحة فيروس كورونا وكافة التحاليل بشكل كامل، قبل نقلها لأحد دور الرعاية.

يضيف “إكرامي”: “كننا الأول بنكتفي بالكشف المبدئي، وقياس الحرارة ولو مظبوطة يبقى خلاص، إنما الست رحاب أول واحدة يتعملها المسحة والتحاليل اللازمة كلها”.

وعن قيامه بعمله في ظل أزمة كورونا وتداعياتها، خاصةً أنه يتعامل مع حالات خاصة كانت تسكن الشارع، يقول منسق وحدة إنقاذ أطفال وكبار بلا مأوى: “هنخاف من إيه؟، مفيش حد بيموت ناقص عمر، وإحنا بناخد احطياتنا والوزارة موفرة الكمامات والجوانتيات والمطهرات، وعلى الأقل بنلاقي اللي يراعينا فيه ناس تانية محتاجة للرعاية أكتر مننا، عشان كدا لازم ننزل كل يوم سواء فيه بلاغ أو إحنا بندور على حد في الشوارع ننقذه”.

إجراء فحوصات كورونا لمُسنة بلا مأوى

إجراء فحوصات كورونا لمُسنة بلا مأوى

إجراء فحوصات كورونا لمُسنة بلا مأوى

إجراء فحوصات كورونا لمُسنة بلا مأوى

إجراء فحوصات كورونا لمُسنة بلا مأوى

إجراء فحوصات كورونا لمُسنة بلا مأوى

إجراء فحوصات كورونا لمُسنة بلا مأوى

إجراء فحوصات كورونا لمُسنة بلا مأوى

تجارة مع الله

قرابة 4 سنوات قضاها “إكرامي” في عمله، إلا أنه يومًا بعد يوم يزداد حبه لما يقوم به، والذي يفضل إطلاق “التجارة مع الله” عليه بدلًا من الوظيفة، حيث يتعلق بالحالات التي يتعامل معها، مثلما حدث مع السيدة رحاب، والتي أعادت لذهنه موقف مساعدة “عم مروان”، المشهد الأقوى تأثيرًا في حياة إكرامي، حيث يقول والدموع تتساقط من عينه: “من أقوى المواقف اللي مرينا بيها أو أنا شخصيًا ومتأثر بيها حالة عم مروان”.

“عم مروان رجل عجوز، كان عنده انتفاخ في المعدة، وتم عمل كافة الإجراءات له، وبعد أربعة أيام مات في المستشفى”، هكذا قص إكرامي باختصار قصة عم مروان، مشيرًا إلى الجانب المشرق في الحكاية: “الحاجة الحلوة إن ربنا وفقنا، وإن قدره يموت في المستشفى بدلًا ما يتبهدل في الشارع، واللي أصعب، أن ابنه يظهر بعد يومين من دفنه”، ولا يغيب عن ذهنه يوم أن طلب منه طلبا غريبا وهو في العناية قبل موته بـ4 أيام وهو في زيارة له، “لقيته بيقولي هات سجارة، قولتله أنت بتموت يا عم مروان، قالي أه بس هات سجارة”.

من جانبها، كشفت ندى شعبان، أخصائي اجتماعي ومسئول نشاط بوحدة شرق القاهرة، أنها قضت 5 أشهر في فريق إنقاذ الأطفال والكبار بلا مأوى، بعد انضمامها للفريق عن طريق إعلان على “فيس بوك” وقبولها، إلا انها تتمنى أن تستمر في عملها والتي ترفض تسميته بـ”الوظيفة” وتفضل تسميته بـ”التجارة مع الله”، حيث تقوم بدعم الأطفال وكذلك الكبار والقيام بالأنشطة المختلفة لجذب ثقتهم.

 

صاحبة الـ27 عامًا تقول إن أبرز المشاكل التي تجعل الأطفال وكبار السن يلجأون للشارع، التفكك الأسري، وجميعها متعلقة بقلة الاهتمام لذا يتركون المنازل، مضيفةً: “الحالات اللي بنتعامل معاها محتاجين رعايهم لأنهم سابوا بيوتهم عشان قلة الرعاية، وإحنا بنحازل نوفر ليهم حياة كريمة، ونفسي أكبر في تجارتي مع الله لأني مش موظفة بس بتاجر مع الله”.

الطريق إلى المأوى

انتهت فحوصات السيدة “رحاب” في تمام الثانية والنصف ظهرًا، بعد أن تم أخذ مسحة فيروس كورونا لها، وتم اصطحابها في رحلة جديدة من حميات العباسية إلى دار “أم كلثوم بحلوان”.

استغرقنا ساعة داخل سيارة إنقاذ وزارة التضامن الاجتماعي، في الطريق من مستشفى حميات العباسية إلى دار المسنين في حلوان. أشعة الشمس تخترق جدار السيارة، و”رحاب” نائمة على فراش مُجهز للمُنسين ممن يتم إنقاذهم بالشارع، تسرد معاناتها بالدموع تارة، وتُغني لمصر تارة أخرى، مُشيرةً إلى أنها قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمها الكبير وهو “مكان تنام فيه غير الشارع”.

في تمام الثالثة والنصف عصرًا تقريبًا، وصلت سيارة الإنقاذ التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، لدار “أم كلثوم” للمُسنين بحلوان، وعلى متنها “نزيل” جديد للدار.

حديث مع المُسنة داخل سيارة الإنقاذ

حديث مع المُسنة داخل سيارة الإنقاذ

يقول منسق وحدة شرق القاهرة لبرنامج حماية الأطفال والكبار بلا مأوى، إن المعلومات التي جمعها من السيدة “رحاب” تحتمل الحقيقة أو التحريف، لذلك يتم عرضها على فريق متخصص يقوم بدوه بتتبع المعلومات التي قالتها الحالة ليبدأ في التعامل معها.

الانتظار في ظل الطقس شديد الحرارة كان له بالغ الأثر على حال صائمي شهر رمضان من فريق إنقاذ وزارة التضامن الاجتماعي، ظل لحوالي ساعة ونصف، حتى انتهى المسئولون في الدار من ترتيب كافة أمور استقبال “رحاب” بعد تخصيص غرفة لها تُصبح مسكنها الجديد بدلًا من أرصفة العاصمة القاسية.

نقل المُسنة من المستشفى لدار المُسنين

نقل المُسنة من المستشفى لدار المُسنين

نقل المُسنة من المستشفى لدار المُسنين
نقل المُسنة من المستشفى لدار المُسنين

نقل المُسنة من المستشفى لدار المُسنين

رحلة الـ7 ساعات

بعد 7 ساعات بدأت في صباح أحد أيام القاهرة “الحارقة” بمدينة نصر، مرورًا بمستشفى حميات العباسية، وصولًا إلى منطقة حلوان، استقبل دار “أم كلثوم” سيدة بلا مأوى بعد أن نجح فريق وزارة التضامن الاجتماعي للأطفال والكبار بلا مأوى في إجراء كافة فحوصات كورونا وتسجيل أول مسحة للفيروس للمُسنين بلا مأوى، لتودع نهائيًا أتربة الشارع القاتلة وأدخنة السيارات السامة، ونظرات أناس كُثر بين الشفقة والاشمئزاز وتقديم يد العون.

انزوت دموع “رحاب” التي كانت حاضرة طيلة الـ7 ساعات وظهرت ابتسامة عريضة على وجهها المصاب بكدمات إثر مكوثها في الشارع لفترة طويلة، بمجرد أن استقبلتها إحدى السيدات العاملات بدار “أم كلثوم”.

وصول المُسنة للدار

وصول المُسنة للدار

في حوالي الخامسة والنصف مساءً، استقل فريق الإنقاذ التابع لوزارة التضامن الاجتماعي، سيارة برنامج إنقاذ الأطباء والكبار بلا مأوى، في طريقهم للعودة لمنازلهم بعد عملية محفوفة بمخاطر الإصابة بفيروس كورونا أثناء إنقاذ مُسنة بلا مأوى، وعلى وجوههم عرق الطقس الحار وأتربة اليوم العصيب وعلامات الانتصار على كل خبيث اعترض طريقهم في سبيل توفير حياة آمنة لسيدة لم تختار يومًا أن تُصبح بلا مسكن أو ملاذ آمن، ليُختتم اليوم بآية من آيات التجارة مع الله.

تابع مواقعنا