الفيروس الوبائي والفيروس السياسي
نشرت وسائل الإعلام وثيقة من 57 صفحة أصدرها الحزب الجمهوري، تتضمن دروسا تفصيلية حول كيفية إلقاء المسؤولية على الصين فيما يتعلق بانتشار الوباء، ومن أطرف ما جاء في هذه الوثيقة التي نشرتها جريدة الشعب الصينية نقلًا عن عدة مصادر إعلامية ، عندما يُطرح السؤال “هل تفشي الوباء ناجم عن خطأ ترامب؟” ، تكون الإجابة “الرئيس ترامب أصدر حظرا للسفر من وإلى الصين ولا تدافع بأي شيء آخر فقط هاجم الصين بكل ضراوة وبشكل مباشر. يظهر هذا الكلام وهذه الطريقة البسيطة في الرد أن الساسة الأمريكيين يواجهون ليس بالعلم والحقائق والأدلة فهم يتجاهلون ذلك، ولكن يواجهون الوباء بمحاولة إرباك الرأي العام وخداعه. في الحقيقة إنه حتى قبل الكشف عن هذه الوثائق ، قام العديد من السياسيين مثل وزير الخارجية بومبيو والسيناتور توم كوتون بافتعال المشاكل مع الصين، فهم حريصون كل الحرص على تسييس أصل الفيروس، وجعلوا من مركز الأبحاث البيولوجية في أوهان خطرًا أمنيًا على الإنسانية كلها ومتسببًا في تسريب الفيروس كحقيقة لا تقبل الشك او الجدال وذلك على خلاف الحقيقة، كما أنهم لم يقدموا أي أساس علمي لمثل هذه الادعاءات الخطيرة، كل ذلك للتغطية على الحقيقة الوحيدة التي تأكد منها الجميع، وهي الاستجابة الضعيفة للحكومة الأمريكية في مواجهة الوباء أمام تزايد شكوك الشعب الأمريكي، فإنهم لم يجدوا طريقة أخرى إلا توجيه الاتهام للصين وإلى منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بفشلهم في إدارة الأزمة خلال فترة تفشي الوباء. والدليل على الفشل الذريع لهم في مواجهة الوباء أنه رغم قيام الصين بإبلاغ كوريا الجنوبية والولايات المتحدة عن أول إصابة مؤكدة بفيروس كوفيد-19 في نفس اليوم ومنذ البداية، لكن منذ ذلك التاريخ، كان مسار تفشي الوباء في البلدين مختلفا تماما، فبالنسبة لكوريا الجنوبية فان عدد الاصابات المؤكدة إحدى عشر ألف إصابة مؤكدة، والوفيات مائتان وتزيد قليلًا ، أما الولايات المتحدة فتعد في الوقت الحاضر أشد الدول تضررا في العالم بسبب الفيروس مع أكثر من مليون وستمائة ألف إصابة مؤكدة ، وما يقرب من مائة ألف حالة وفاة. وقد مشط ريتشارد هوتون رئيس تحرير مجلة “ذي لانسنت” وخبراء الصحة الآخرون الجدول الزمني حول تطور تفشي الوباء بالتفصيل، وقد أكدوا أن الولايات المتحدة حصلت على المعلومات المتعلقة بالفيروس من منظمة الصحة العالمية منذ البداية، مما يثبت مرة أخرى بأن “تعطيلها وتأخيرها” في الاستجابة لتأخر المعلومات وإخفائها بمعرفة الصين هي مجرد كذبة كبيرة. لقد أكد بعض مسؤولي الصحة في الولايات المتحدة على إن هذا الوباء بمثابة “هجمات بيرل هاربور و11 سبتمبر” بالنسبة للأمريكيين في الوقت الحالي. ومع زيادة انتشار المزيد من المعلومات حول الإستجابة الضعيفة للحكومة الأمريكية والفوضى العارمة في المراحل المبكرة من تفشي الوباء، ومع زيادة فهم الأمريكيين لكيفية انتشاره ، بات من الواضح أنه على الجمهورين ان يبحثوا عن اسباب مقنعه لفشلهم في التصدي للوباء ، ولكن الكثير منهم مازالوا يخدعون أنفسهم إذا ظنوا أنهم قادرون على افتعال المشاكل وإلقاء اللوم على الآخرين لتضليل الرأي العام الذي تضرر من الوباء ومن ردود أفعال الجمهوريين في التصدي له. يجب ان تكون هذه الأزمة التاريخية في الأيام القليلة الماضية مصدر إلهام للمجتمع الأمريكي لطرح المزيد من الأسئلة ولمزيد التفكير، وعدم التركيز على اتهام باقي الأطراف المعنية واللاعبين الدوليين، والمؤكد حتى الآن أنه وعلى الرغم من امتداد أكثر من ثلاثة أشهر فإن الولايات المتحدة لا تزال غير قادرة على السيطرة على المرض، وإجراءات المكافحة بطيئة جدا وسلبية. هذا ليس كلامي ولكنه كلام الخبراء والمختصين فقد أشار مقال بمجلة العلوم إلى أن استجابة الحكومة الأمريكية للوباء بالـ”المُجزّأة والفوضوية”، وتعاني من رسائل متضاربة من قبل السياسيين. وقد أشار أرثر كابلن، الأستاذ في مركز لانجون الطبي بجامعة نيويورك إلى أن البيت الأبيض لم يأخذ تهديدات تفشي الفيروس في الولايات المتحدة على محمل الجد، وبأن المحافظين الذين يؤمنون بالأسواق الحرة يضعون الأيديولوجية فوق العلوم وبالتالي لا يمكنهم القيام باستجابة وطنية قوية لمواجهة الوباء. وبما أن الأبحاث العلمية لم تقرر كلمتها بعد، فإن التضامن والتعاون الدوليين هما “اللقاحين” الأكثر فعالية التي تحتاج البلدان للاعتماد عليها لمكافحة هذا الوباء.
إن هذا الفيروس لا يعترف بالحدود، وحتى يصبح الجميع بأمان فلا يمكن لأحد التحدث عن الأمان الحقيقي. في مواجهة هذه الأزمة العالمية، فإن أي شخص يحارب الفيروس في أي ركن من أركان العالم فإنه ينتمي إلى النضال البشري ضد الوباء. وأما لعبة افتعال المشاكل وإلقاء اللوم على الآخرين فهي فقط لصم الآذان عن الاستماع للحقيقة ولا يمكنها أن تكون لقاحا ضد الفيروس بل ربما أفضل لو قلنا عنها بأنها “فيروس سياسي”.