حاول تفتكرني!
فى سنة 1986 الشاب الأمريكي وقتها “راسل كريستوف” حاول يشتغل كموديل إعلانات.. قرار ساعده فيه إن ملامحه وسيمة وتشد الإنتباه وهو ده أهم حاجة هتكون مطلوبة بالنسبة لأى حد هيعمل إعلان يعني.. قدم صورته لـ كذا شركة دعاية، ومع الصورة جملة إنه مستعد يعمل أى نوع من الإعلانات لأى مكان.. شركات ملابس رياضية.. شركات ملابس رجالي.. مطاعم.. فنادق.. أنا راجل ملامحي لطيفة وبالتالي أى حاجة أنا دايس فيها معاكم.. عظيم.. بالفعل جاله عرض من شركة “نستلة” عشان كانوا عايزين يعملوا حملة دعائية للمشروب الأهم عندهم “النسكافيه“.. تعالا يا عم “كريستوف” إتصور كام صورة عشان نحطهم على العلب بتاع “نسكافيه“.. راح “كريستوف” وإتصور تمام التمام..
غابوا عنه يوم إتنين تلاتة بعدها كلموه وقالوله للأسف إحنا مش هنستخدم الصورة بتاعتك لإننا غيرنا الخطة الدعائية كلها خالص.. وبص يا عم إحنا كنا متفقين معاك على 2000 دولار لو الموضوع تم لكن وبما إننا مش هنستخدم الصورة والموضوع وقف فهتاخد 250 دولار كإنها إعتذار بسيط على وقتك.. “كريستوف” ماكنش عنده أزمة فى الموضوع خصوصاً إنه كان زي اللى بيرموا الـ CV بتاعهم فى كذا شركة ويا تصيب يا تخيب، ولو مفيش فرصة ولا نصيب معاكم أكيد هيكون ليا مع غيركم.. مازعلش، وكمل تدوير، وسعي على أماكن تانية يمكن يلاقي سكة.. يمين شمال مفيش.. “كريستوف” كان عنده عادة غريبة شويتين تلاتة أربعة وهي إنه مش بيحب يزور صيدليات!.. خالص.. فيه ناس بتخاف تزور الدكاترة بس هو معندوش مشكلة إنه يروح عيادات لكن صيدليات لأ يعني لأ.. عشان كده لما كان يتعب كان بيعتمد فى علاجه على الوصفات الطبيعية أو لو إضطر أوي بيخلّي الدكتور اللى هو بيكشف عنده يديله الدواء لو موجود عنده منه علبة ولا إتنين فى العيادة!.. طيب يا سيدى إبعت حد من أسرتك يشتريلك من الصيدلية وبلاش أفورة!.. لأ برضه.. أنا لا أحب أروح صيدليات ولا أحب حد من عيلتي يروح صيدليات!.. ماشي.. تمر الأيام ويفضل الفشل ملازم “كريستوف” وكل الأبواب مقفلة فى وشه.. طيب هو مضطر يشتغل ومش هينفع يفضل منتظر الفرج بتاع الإعلانات ده مكانه كده، وفى نفس الوقت سنه عمال بيكبر وعنده بيت ومسئوليات وبتاع.. إشتغل مدرس فى حضانة أطفال!.. حاجة بعيدة خالص عن تخصصه، ومالوش أى صلة بيها!.. بس أهو اللى موجود.. الغريب إنه إستمر فى الشغلانة دي سنين وأثبت نفسه فيها.. عدت سنة إتنين تلاتة عشرة وأكتر كمان، و“كريستوف” زي ما هو فى نفس الوظيفة والحياة المملة الرتيبة اللى نمطها ثابت ومش بيتغير..
آه بالمناسبة خلال السنين الكتير دي إتعرض لكذا أزمة أسرية صعبة شوية.. منهم مثلاً إنه إضطر يرهن البيت بتاعهم ويبيعوا كتير من العفش بسبب ضعف مرتب الحضانة والدنيا كانت بتزنق معاهم، وبعد كده سابوا البيت لما ضاع عليهم وماقدروش يفكوا الرهنية وراحوا شقة تانية صغيرة.. من الأزمات الصعبة برضه وهي الأهم إن والدته تعبت تعب قاسي وكانت المفروض تعمل عملية بس تكلفة العملية كانت كبيرة والتأمين الصحي ماكنش هيغطيها بالتالي كان البديل الأنسب واللى مش هيعمل فرق فى الحالة غير إنه هيطول عمرها شوية مش أكتر؛ هو العلاج الدوائي والإستمرار عليه!.. بسبب إضطراره ده خلّى جاره هو اللى يروح الصيدلية اللى جنب البيت ويجيب الدواء لأمه بشكل دوري!.. يا عم طب ما تدخل إنت!.. لأ أنا قولت إني بتقفل من الصيدليات، وبعدين مش هتفرق أنا ولا حد غيري المهم إن الدواء ييجي!.. يستمر الموضوع ده على كده شهور، ويمكن سنين، ومفيش معلومة مؤكدة هل والدته إتوفت ولا فضلت عايشة بس الأغلب إنها إتوفت.. فى سنة 2002 بيتعب “كريستوف” تعب صحي جامد عبارة عن ضيق فى التنفس ووجع فى صدره.. الدكتور بيكشف عليه وبيطلب منه إنه يجيب مجموعة معينة من الأدوية ومفيش بديل عنها.. جاره كان مسافر فى اللحظة دي.. بيضطر “كريستوف” اللى فضل معطل نفسه يومين كاملين على أمل إن جاره يظهر بدون نتيجة؛ إنه يدخل الصيدلية بنفسه.. إتحرك من بيته بصعوبة رغم إن السخونية كانت مخلياه مش شايف قدامه.. دخل الصيدلية.. قابل الصيدلانية اللى واقفة وكانت ست كبيرة فى السن نسبياً.. إداها الروشتة.. دخلت تجيب الدواء.. وهو واقف منتظرها عينه جت على برطمان “نسكافيه” على مكتبها!.. بص على الصورة اللى على البرطمان وحس إنه شايف نفسه فيها!.. مسك البرطمان وركز أكتر!.. الله!.. ده أنا ولا دي السخونية ولا فيه إيه بالظبط!.. فى اللحظة دي خرجت الصيدلانية ومعاها الدواء.. رفع البرطمان فى وشها وسألها: (من فضلك من هذا الشخص؟).. الست بدون تفكير، ورغم إن “كريستوف” نفسه كانت ملامحه إتغيرت عن اللى فى الصورة لكن قالتله بسرعة: (هذا أنت بدون شك).. سألها: (متأكدة؟).. ردت: (سيدي أنا أتناول هذا المشروب مرتين يومياً لمدة أكثر من 15 عام وأطالع صورتك مرتين يومياً).. بيكتشف “كريستوف” إن الشركة إستغلت صورته اللى كان صورها سنة 1986 بدون إذنه، وإنهم خدعوه بشكل أو بآخر.. خرج.. كلم صديقه المحامي.. إشتغلوا على القضية لمدة 9 شهور متواصلة.. المحكمة حكمت له بتعويض من الشركة قيمته أكتر من 15 مليون دولار!.. أكيد وبدون ما نسأل مفيش شك إنه فى اللحظة اللى إستلم فيها الفلوس نطت مجموعة من الأسئلة الوجودية بينه وبين نفسه.. يعني لو كنت بطلت تردد ودخلت الصيدلية من زمان كان ممكن ألحق والدتي، وأعمل لها العملية؟.. ما هي الست قالت إنها بتشرب نسكافيه كل يوم بقالها 15 سنة يعني كان بيني وبين إكتشاف الحقيقة هو باب الصيدلية!.. كان ممكن وضعي المادي والحياتي يتغير قد إيه؟.. كان ممكن ألحق بيتي قبل ما يتباع؟.. أسئلة كتير وبدون نهاية أكيد كانت بتنهش فى مخه وقتها بس معاهم أكيد كان فيه كمية لعنات وشتايم كتير منه لـ تردده اللى ماكنش له أى معني قبل كده الحقيقة.
الإنبوكس:
– أنا “يمنى“.. عندي 24 سنة.. خريجة كلية علوم جامعة القاهرة.. والدي حافظ كتاب ربنا، وربانا أنا وإخواتي التلاتة البنات أحسن تربية وعمره ما كان بيدخل علينا قرش واحد حرام.. رغم متاعبه الصحية كان بيشتغل 3 شغلانات عشان يكفينا، وتقريباً ماكنش بيشوفنا.. كان فيه بُعد فى التفاهم بينه وبين إخواته.. 3 أعمام وعمة.. أخلاقهم وتربيتهم كانت مختلفة عنه بس وعشان هو الكبير كان دايماً بيحاول يحتويهم ويسأل عنهم رغم إنهم عمرهم ما كانوا مهتمين بينا بأى شكل من الأشكال.. حتى جدي الله يرحمه لما تعب وكان فى أيامه الأخيرة كان والدي بس هو اللى بيهتم بيه وبيراعيه، وهما مش فى الصورة خالص.. وفاء والدي لوالده كان غريب ومش سهل تلاقيه فى الزمن ده عند حد.. كان بيشيل جدي عشان يدخله الحمام ويقف ينتظره بره لحد ما يخلص.. كان هو اللى بيحميه.. بيأكله فى بوقه باللقمة.. وكتير كان بيحاول يخرجه من المود بتاعه بإنه يضحكه رغم إن والدي نفسه كان فيه اللى مكفيه بس كان بيلاقي نفسه فى شوية الود والبر اللى مع والده.. كتير والدي كان بيتصل بإخواته إنهم ييجوا يتطمنوا على جدي بس كانوا بيتحججوا.. والدي جاله فرصة شغل فى الخليج.. رفض!.. رفض بدون ما يفكر مرتين.. مع إنها فرصة كانت هتغير مسار حياتنا خالص.. كان سببه وقتها: (وأسيب أبويا لـ مين؟).. كنا نرد أنا وماما وإخواتي: (وإحنا رحنا فين!، إحنا هناخد بالنا منه وهنراعيه).. يرد: (بس برضه مش زيي!، حتى لو يومي كله بتنقل من شغلانة لشغلانة لشغلانة تالتة بس إسمي فى آخر اليوم برجع البيت وببوس إيده وأقعد تحت رجله، وأشوفه عايز إيه).. مات جدي الله يرحمه.. وإتغير والدي بعدها كإنه إنطفي.. حصلت أزمة ومشاكل بين والدي وإخواته بسبب ورث جدي.. بعد وفاته فوجئنا إن جدي وزع كل فلوسه اللى كانت قليلة أصلاً على أولاده بالعدل الشرعي بس إختص أبويا بـ البيت بتاع البلد.. أقسم بالله عمل كده من ورانا كلنا ومن نفسه!.. والدي راجل غلبان وحقاني وبتاع ربنا وعمره ما ياكل حق حد غريب فما بالك بالقريبين!.. كانت علاقته بإخواته وصلت لـ طريق مسدود، وقطعوا كل سبل التواصل معاه.. يحاول يروح لهم بيوتهم يطردوه!.. يتصل بيهم يقفلوا السكة فى وشه.. يوسط ناس عشان يتكلموا معاهم يرفضوا.. والدي قرر إنه يبيع بيت البلد ويوزع فلوسه بينه وبين إخواته.. قال: (أنا مش عايز مشاكل مع اللى من لحمي ودمي، هما شالوا كل اللى بينا وإختصروه فى الفلوس، وأنا مش هخسرهم عشان الفلوس).. وقفنا أنا وماما وإخواتي ضده فى قراره بس هو صمم.. بدأ يسعي إنه يبيع البيت ويشوف لنا بيت بديل عشان لما بيتنا يتباع!.. المواضيع دي بتاخد وقت ومش بتخلص بسرعة.. للأسف كانوا إخواته فى نفس الوقت بيحركهم الشيطان بدون ما يعرفوا نيته الطيبة وإتفقوا عليه وزوروا ورق عشان يتهموه إنه مزور!.. كل حاجة مشيت بسرعة.. إتحبس ظلم لمدة 3 سنين.. الحكاية مابقتش مجرد حكاية بيت يتباع وفلوسه هتحل المشكلة.. لأ.. والدي فى نظر القانون وبسبب تزويرهم بقي مزور!.. مش محتاجة أقول لك نتيجة موقف زي ده بقت سمعتنا عاملة إزاي!.. عمي الكبير إستولي على بيت جدي، وطردنا منه وقعدنا فى بيت صغير، وطبعاً ما أخدناش ولا مليم.. فى نفس الفترة دي أنا كنت مخطوبة لـ “طارق“.. شاب جارنا حبني وحبيته ودخل البيت من بابه وإتخطبنا.. بعد موضوع حبس والدي قابلت “طارق” وطلبت منه إنه يبعد عني عشان أنا مقدرة كمية الضغوط اللى هتبقي موجودة عليه من أسرته!.. أصل إيه اللى يجبره يفضل مكمل مع واحدة والدها رد سجون.. فوجئت بيه إنه تمسك بيا أكتر.. عمري ما هنسي جملته: (يا يمنى فيه مواقف ماينفعش نفكر فيها مرتين).. بعد حبس والدي زادت الضغوط على أمي.. ست لوحدها ومعاها 4 بنات بدون دخل ولا قرش والعائل الوحيد فى السجن وحتي شوية الفلوس البسيطة اللى ورثها والدي عن والده كانت بتنقص تدريجياً ومش مكفية حاجة!.. “طارق” بيشتغل مبرمج كمبيوتر بقي يشتغل شغلانتين عشان يساهم معانا فى مصاريف البيت ويساعدنا!.. مصاريف الجامعة.. مصاريف البيت.. فلوس لبسنا، وكل إحتياجاتنا.. راح فك وديعة كانت بإسمه فى البنك كان والده عاملهاله عشان يجيب محامي كبير يترافع عن والدي.. حاول على قد ما يقدر يسد غياب والدي، ومش هبالغ لو قولنا إننا مع الوقت ماكناش بنحس بفرق.. اللى عرفناه بعد كده إنه كان بيزور والدي فى مواعيد الزيارات المخصصة من السجن وبيوديله هدوم وفلوس وأكل من ورانا.. يعني غير إنه بقي راجلنا هو كمان بقي إبن والدي اللى ماخلفهوش.. جلسة بعد جلسة وإستئناف بعد التاني وبعد شهور كتير مرت علينا كإنها 10 سنين خرج والدي الحمدلله براءة.. علاقة “طارق” بينا كأسرة زادت، وقناعتي إن هو ده الراجل اللى عايزة أكمل معاه زادت برضه.. فى يوم أخدني يفسحني ودخلنا سينما وإتعشينا وإتمشينا وقبل ما يسيبني قالهالي!.. ماكنش راضي ييجيب لى الخبر مرة واحدة.. (يمنى أنا عندى سرطان فى الدم، عرفت الأسبوع اللى فات).. لما قالها كان بيضحك لدرجة إني إفتكرته بيهزر!.. بس بعد ما أكد إنه بيتكلم بجد حسيت إني إتشليت ورجليا مش شايلاني.. حسابياً وبحسب كلام الدكاترة الفترة اللى باقياله مش هتزيد عن سنة.. كان بيحلني من أى وعد بيني وبينه، وقال لى إنه عمره ما كان مبسوط غير وهو معايا.. أنا كنت فى وادى تاني خالص ومش مركزة فى كلامه.. وصلت بيتنا وقفلت على نفسي وعيطت عياط فرغ كل نقطة سائل فى جسمى!.. والدي دخل عليا الأوضة.. لاحظ.. سألني.. مقدرتش أتكلم.. ضغط عليا، وصمم.. قولتله.. بدون ولا كلمة قال لى: (قومي إلبسي).. سمعت كلامه بدون ما أناقشه، وأنا مش عارفة هو ناوي على إيه.. أخدني من إيدي بدون ما يقول لـ أمي ولا لإخواتي.. فى طريقنا جاب مأذون وطلعنا على بيت “طارق“ إحنا التلاتة.. والدته فتحت.. سلمنا عليها، ووالدي شاددني من إيدي والمأذون ورانا.. خبطنا علي “طارق” باب أوضته.. والدي قال للمأذون: (جهز ورقك يا مولانا لحد ما أجيب إتنين شهود من تحت).. بص لـ “طارق” وقال له: (وإنت يا عريس قوم إلبس حاجة بدل البيجامة دي! فيه حد يتجوز ببيجامة!، يالا قوم عقبال ما الحاجة تجهز الشربات).. فهمت اللى والدي قرره، و“طارق” دموعه نزلت، وأنا كمان.. المأذون قعد على الكرسي وهو بيضحك وبدأ يحضر اللى هيكتبه.. “طارق” بص لي وسألني بعينه بدون ما يتكلم: (ليه؟).. قلت بعيوني بدون ما أتكلم: (دايماً كنت فاكرني، وعمرك ما نسيتني).. حسيت إنه فهم اللى قولته بعيوني.. رديت عليه بـ صوت: (إنت مافكرتش مرتين لما إخترتنا، فماكنش ينفع أفكر مرتين لما أختار إني أفضل معاك).
الرد:
– الفيلسوف الصيني “يونج” قال: (التردد و إطالة التفكير في القيام بعمل ما غالباً ما يتحول إلى سبب لإبطاله).. التردد بيضيع من بين الإيد فرص، أحلام، وناس.. ربنا بيحط قدامنا طرق ذهبية كتير بس وبسبب ترددنا الغير مبرر فى لحظة مش بتلاقيها.. آه عشان هو كريم ورحيم بيعوضنا بعدها برضه بـ عوض مدهش عشان هو عارف إن ضيق تفكيرنا وقتها ماخلاناش ندرك إن الخوف حاجز وهمي بيتحط قدامنا عشان يمنع عننا الخير؛ بس بتفضل فينا نغزة إن ياه ياريتني لو كنت عملت كذا.. ماتفكرش مرتين.. فكر فى إختيارك مرة واحدة بس بذمة وإديها حقها من الإلمام بكل جوانب وتفاصيل الإختيار ده وبعد كده دوس.. ساعتها حتي لو هتديله عمرك مش هتندم.. التفكير مرتين تردد، والتردد تخلّي.
لقراءة باقى مقالات تامر عبده أمين أضغط هنا