قراءة في بيان الخارجية المصرية عن ملف سد النهضة (1-2)
في ساعة متأخرة من مساء أمس الجمعة أعلنت الخارجية المصرية إحالة مصر ملف سد النهضة الإثيوبي إلى مجلس الأمن الدولي. ونحاول هنا تحليل دلالات الإحالة والوقوف على ما تضمنه البيان من رسائل.
بداءة نستبق تساؤلًا واستنتاجًا بالإجابة عليه، هل تأخرت مصر في ولوج الطريق الأممي؟! وواقع الأمر وحقيقته أنه لا يحاج على مصر بالتباطؤ في قرْع باب مجلس الأمن الدولي، وذلك لأن هذا الادعاء فضلا عن افتقاره للفهم الصحيح لمبنى العلاقات الدولية ولماهية قواعد القانون الدولي ولأسس الأعراف الدبلوماسية ؛ فإنه يصادر على المطلوب، وكأن القائلين به قد سلّموا سلفًا بما افترضوه دعمًا لحججهم.
اتساقًا واتفاقًا مع قواعد التحليل العلمي نرى- وعكس ما يعتقد البعض- أن ملف سد النهضة يدار بحرفية عالية ودبلوماسية ثاقبة وبإدراك واعٍ بقواعد اللعبة الدولية وموازين القوى العالمية: فمن ناحية أولى، إذ يستفاد من ميثاق الأمم المتحدة وخاصة ديباجته والمادة الثانية منه على ضرورة تغليب الطرق السلمية في فض الخلافات الدولية والامتناع عن اللجوء إلى القوة فضلًا عن التهديد بها، وهو ما أكدت عليه فيما بعد المادة 33 من الميثاق حيث أوجبت على أطراف أي نزاع دولي من شأن استمراره تعريض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بطرق المفاوضات والتحقيق والوساطة… أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها وهذا عين ما انتهجته مصر ؛ فمنذ بدء النزاع ومصر ملتزمة بهذا المنهج ولم نلحظ مجرد علو نبرة صوت طوال السنوات الماضية.
ومن ناحية ثانية، أن مقتضيات المنطق وقبل اللجوء إلى هيئة دولية، استنفاذ الطرق الودية المباشرة بين الأطراف، وذلك البيان يزخر بأدلة نجاح الدبلوماسية المصرية في إدارة الملف وهو ما نحاول تبيانه فيما يلي:
أولًا: ألقت مصر بالكرة في الملعب الإثيوبي منذ البداية ؛ فعلى مدار السنوات التسع الماضية كان الخيار المصري هو التهدئة والحوار والدعوة إلى حلّ توافقي يرضي كافة الأطراف بما يحفظ مصالحها، لكن إثيوبيا قابلت هذه المرونة بصلف وعنت شديدين وعلى ما يبدو أنها أساءت فهم تلك المرونة وفسرتها على أنها ضعف ؛ ثانيًا: أولت مصر اهتمامًا بالغًا واحترامًا مستحقًا لمبدأ حسن النية في العلاقات الدولية، فقد شاركت مصر في العديد من المفاوضات الثلاثية بل وبرعاية وسيط متمثلا في الولايات المتحدة والبنك الدولي، وهذا يحسب لمصر أنها لم تغرّد خارج سرب الشرعية الدولية ولم تتخطَّ سقف الهدوء والروية ولم تنزلق إلى فخ الاستفزاز الإثيوبي. ثالثًا: نضح البيان بالتأكيد على عودة العلاقات المصرية السودانية، علاقة الأخوة، الماضي والحاضر والمستقبل المشترك، لسابق عهدها، ليس هذا فحسب بل يستشف توافق الرؤى ووحدة الكلمة وهذا منجز عظيم، إذ فضلًا عن كونه عودة للحقيقة وللطبيعة، فهو يقوي ويعزز من موقف مصر دوليًّا وورقة ضغط في يدها وسيف تشهره في وجه الصلف الإثيوبي ؛ رابعًا: التزمت مصر بالهدوء والثبات السياسي الانفعالي في حين فلت اللسان الإثيوبي وتفوّه بما يخالف التقاليد والأعراف الدبلوماسية، واعتزمت إثيوبيا فرض سياسة الأمر الواقع واستعدادها لاستخدام القوة في فرضه، وهذا المسلك الطعين يتنافى مع مبدأ حسن النية في العلاقات الدولية، وذلك على النقيض من الموقف المصري المعتبر الذي لم يصدر عنه أية إشارة بالتلويح باستخدام القوة.
خامسًا: أبدت مصر استعدادًا لتقبّل بعض الأضرار البسيطة المحتملة وذلك بتوقيعها اتفاق مبادئ 2015 والذي من مقتضاه توافق الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، على قواعد تشغيل وملء السد، ليس هذا فحسب بل امتناع إثيوبيا عن القيام بأي إجراء أحادي يُحدث أضرارًا جسيمة لمصر والسودان وهذا يعضد ويؤكد تمسك مصر بمبدأ حُسن النية في العلاقات الدولية. تلك الرغبة في الحل السلمي وفي الجلوس على طاولة المفاوضات تحسب لمصر، حيث إنها قد سدّت كل الفراغات وأوصدت جميع النوافذ التي قد يتسلل منها مأخذ عليها أو طعنة تسدد لها منها.
سادسًا: بتسديدة سديدة وباحترافية عالية ألقت مصر بالكرة هذه المرّة في الملعب الأممي، وهنا ورقة ضغط مزدوجة على مجلس الأمن وعلى المجتمع الدولي ؛ فالجميع ملتزم بحفظ السلم والأمن الدوليين وعلى الجميع الاضطلاع بمسؤولياته. من مقتضيات هذا المسلك أيضًا توجيه رسالة شديدة اللهجة لكل من يدعم الطرف الإثيوبي، وهذا تحذير أتى في وقته، وكل لبيب بالإشارة يفهم.
سابعًا: أكد البيان على الأهمية القصوى لنهر النيل لمصر إذ عبر بأسلوب بليغ قطعي الدلالة على أنه” …ونظراً لما تمثله مياه النيل من قضية وجودية لشعب مصر…” هذه الجملة فائقة البلاغة تحمل من المضامين والرسائل الكثير والكثير، لعل أكثرها دبلوماسية وتهذّبًا هي أنها مسألة حياة أو موت !!
بمكنتنا القول بأن مصر قد جرّدت إثيوبيا من ثياب الحجج ما ظهر منها وما بطن، وأحرجتها سياسيا على الملأ وأشهدت العالم كله على تعنتها وصلفها. وهذا مكسب سياسي ومنجز دبلوماسي يحسب للقائمين عليها. إن مصر باللجوء الرسمي إلى مجلس الأمن تعلنها صراحة وبملء الفيه استنفاذ كل الطرق الودية السلمية وعليه الاضطلاع بمهامه وتحمل مسؤوليته في هذا الصدد، كما أنها تبعث برسالة واضحة صريحة في أن القادم حال نكوص مجلس الأمن وتحلله من واجبه تعريض السلم والأمن الدوليين للتهديد والخطر !!
السؤال الآن وماذا بعد… ؟! السؤال بطريقة أخرى، هل بمكنة مجلس الأمن الدولي إعادة الأمور إلى نصابها ؟! لا تخلو جعبة مجلس الأمن من حلول، ولا تعدم سلّته من الاقتراحات وهذا موضوع المقال القادم. إنها لحظة للاصطفاف الوطني، لحظة لا يتنصل منها أي مصري، يجب على الجميع الوقوف صفًّا واحدًّا خلف القيادة السياسية وبذل كل ما بوسعه في سبيل قضيتنا الوطنية، قضيتنا المصيرية.
من جانبي، كنت قد اعتزمت تنظيم مؤتمر علمي دولي في فرنسا لأكاديميين وقضاة دوليين بالاشتراك مع جامعات السوربون وليون وإكس بروفانس وفرانش كومتيه من فرنسا وجنيف ولوزان من سويسرا وهارفارد من أمريكا، حول السبل الودية لحل النزاع المصري الإثيوبي، بعدما قمت بنشر بحث علمي باللغة الفرنسية بهذا الخصوص في عام 2016، وكنت قد اعتزمت عرض المقترح على الدكتور محمود المتيني رئيس جامعة عين شمس، إذ كان من المفترض أن يزور فرنسا لأمور أكاديمية بداية مارس الماضي ولكن ظروف كورونا حالت دون مجيئه.
لتوي وبعد إعلان الخارجية المصرية وبعد أن أعلنت فرنسا تخطي مرحلة كورونا قمت بإرسال خطابات إلى الزملاء بالجامعات المذكورة وسوف أبلغ رئيس جامعة عين شمس إذا ما أراد المشاركة باسم جامعتنا العريقة في أعمال المؤتمر. كنت قد انتويت أيضًا دعوة عدد من أعضاء لجنة القانون الدولي بالأمم المتحدة نظرًا لسابق العمل مع اللجنة وما أحتفظ به من علاقات طيبة مع أغلب أعضائها. هذه الدعوة تأتي بغرض الوقوف على مختلف الحلول الممكنة لحل النزاع سلميًّا، وهو محل مقال قادم.
الهدف من هذا المؤتمر العلمي هو إثبات صحة الموقف المصري والدفاع عنه بالحجج والأسانيد العلمية في ضوء قواعد القانون الدولي، وآثرت ألا أدعو إليه أية جهة دبلوماسية حتى لا يكون مسيّسًا وحتى يحظى بمصداقية على المستوى الأكاديمي الدولي. وسوف تُنشر أعمال المؤتمر فيما بعد.
شسوع فرق بين أن تكون فارسًا في الدبلوماسية الدولية، مالكًا لأدواتها وبين أن تكون متوهمًا لذلك، بين من يُعلي من مصلحة بلده وبين من تأخذه العزة بالإثم. تحية للدبلوماسية المصرية، وتحية للفريق الأكاديمي المشارك معها وأخيرًا تحية لمن صاغ البيان بهذه العناية الفائقة والدقة البالغة والدلالة اليقينية والرسالة الواضحة والهدف الصريح. حفظ الله مصر والمصريين وأبقى النيل جاريًا ما بقيت الحياة. يُتبع…
*أكاديمي قسم القانون الدولي بحقوق عين شمس