“فاكرك يا ناسيني!”
الإنبوكس:
أنا “أحمد القاضي”.. عندي 34 سنة.. من إسكندرية.. واحد من شلة عددهم 5.. “إيهاب أيوب”، “محمد يونس”، “عبدالرحمن ناصر”، “بولا إبراهيم”، وأنا.. ولاد نفس المنطقة اللى إتربينا مع بعض وطلعنا للدنيا مفيش حد مننا يعرف فى حياته غير الأربعة التانيين.. إكتفينا ببعض عن العالم، وعن الناس.. يمكن كنّا سبب كمان فى قرب أهالينا من بعضهم.. ماكنش غريب إن بسبب القرب ده “عبدالرحمن” يخطب أخت “محمد” أو إن والد “بولا” يكون هو محامي والد “إيهاب” فى قضية خاصة بالمحل بتاعه زمان، ومايخدش منه أتعاب المحاماة!.. مواقف كتير كانت ثمار محبتنا لبعض كـشلة واحدة لحد النهاردة.. عايز أرجع معاك حوالي 28 سنة فاتت!.. أكتر هواية كانت بتجمعنا وإحنا عيال عندنا 6 سنين هي إننا نطير طيارات ورق قبل آذان المغرب بـشوية في الصيف!.. بيوتنا إحنا الخمسة فى نفس الشارع.. كان الإتفاق فى أول مرة نعملها إن كل واحد فينا هيطلع فوق سطوح بيتهم، ويطير طيارته!.. وأول واحد فينا هيسبق هيتعزم على حاجة ساقعة وشيبسي.. ومين اللى هيعزمه؟..
آخر واحد هيتأخر فى تطيير طيارته.. فل.. المغرب بيأذن 5 ونص بالظبط.. أول ما دقت الساعة 5 طلعت جري فوق السطوح، وأنا ماسك فى إيدى الطيارة بتاعتي وخايف عليها عشان ماتتجرحش من الدرابزين بتاع السلم، والأهم عشان ألحق، وأكون أول واحد!.. قابلت “أم إسلام” جارتنا.. وقفت تسألني عن أمي وأخواتي وأبويا.. حاولت أكروت فى الكلام معاها عشان ده مش وقتها خالص، والميعاد هيفوت!.. خلصت منها.. كملت جري لـ فوق!.. قابلت عم “نصر” جارنا اللى على المعاش.. وقفني!.. طلب مني أعدل له إيريال التليفزيون عشان هيتفرج على ماتش الأهلي بالليل.. قولت له: (ماشي ماشي)، وطنشته وكملت لـ فوق.. فى الدور اللى بعده قابلت أمي اللى كانت لسه خارجة من عند واحدة جارتنا وشايلة معاها حلل وصواني.. (“أحمد” بركة إني شوفتك تعالا ساعدني وشيل معايا اللى شايلاه).. طنشتها، وكملت على فوق.. وصلت السطح، وأنا نفسي مقطوع.. بصيت على اليمين لقيت طيارة خضراء.. هوب يبقي كده “إيهاب” حضر، وكسب.. بصيت على الشمال لقيت طيارة “بولا” الصفراء.. بصيت أبعد شوية على الشمال لقيت طيارة “عبدالرحمن” الزرقاء باينة من البيت اللى بعد بيت “بولا”.. إيه طيب أنا هفضل أتفرج عليهم لغاية ما ألبس أنا الرهان!.. لو ماكنش فيه فرصة أكون الأول يبقي مش هكون الأخير يعني.. بسرعة بسرعة حاولت أفك الغزل عشان أطير بتاعتي لمحت فى السطوح اللى قدامنا “محمد” بيشاورلي وهو ماسك غزل طيارته الحمراء اللى كانت بدأت تطير فعلاً!.. يا ولاد اللذينا!.. يعني أنا اللى شيلت الليلة!.. ماشي الحال.. كانت اللعبة البسيطة دي هى حياتنا.. حتى فى لحظات خناقنا كنّا بنلعبها كل يوم خلال شهور الصيف.. حتى لما كنّا بنكبر فى السن.. مش مهم مين متخاصم من مين، ولا مين عمره قد إيه.. ميعاد الطيارات ده ميعاد مقدس.. دايماً “إيهاب” كان بيطلع الأول، والحقيقة إنه كان ومازال الأول فى كل حاجة.. “هوبة” هو نسمة الصيف اللى كانت بتلطف علينا فى أصعب اللحظات.. اتنين مننا يتخانقوا؛ يظهر “إيهاب”!.. يقرب وجهات النظر أو حتى يفرض الصلح فرض على الطرفين بالعافية.. (إحنا إخوات يا هُبل!، خصامنا يبقي دقايق لكن عيب يبقي أكتر)..
حد فينا يكون عنده مشكلة مع أبوه ويطرده من البيت؛ يظهر “إيهاب”، ويستقبل فى بيته الحد ده لحد ما الأمور ترجع لمجاريها!.. فى إعدادى كنّا إحنا الخمسة فى نفس المدرسة بس مش فى نفس الفصل.. فى مرة لما إتخانقت فى الفصل بتاعي مع مدرس الرياضيات عشان ماكنتش باخد عنده درس خصوصى كان بيتلكك لى عشان يعاقبني!.. مرة فى مرة ماقدرتش أستحمل.. رديت عليه.. زعق فيا.. زعقت.. طلعني على السبورة.. ضربني ضرب هيستيري بالعصاية فى كل حتة فى جسمي.. باب الفصل إتفتح، ودخل “إيهاب” ومسك إيد المدرس، وحاشه عني.. المدرس من غرابة الموقف صرخ فيه: (إيه اللى إنت بتعمله ده؟).. “إيهاب” حطني فى ضهره وحاوط عليا بإيده، وقال له: (مينفعش تضربه يا أستاذ، لو غِلط إفصله بس ماتضربوش).. المدرس إتجنن ونزل بالعصاية على “إيهاب” اللى كان بيحمي وشه من العصاية بإيد وبالإيد التانية بيحوش عني أنا.. والنتيجة؟.. المدرس جاب جواب فصل لمدة أسبوع لـ “إيهاب”، وكإن معركته بقت معاه هو مش أنا.. بس “إيهاب” كان بيتعامل مع الموضوع إننا طلعنا كسبانين!.. حتى لما وإحنا مروحين فى يومها، وأنا بحكي لباقي الشلة على الموقف بصيت لـ “إيهاب”، وسألته: (إنت إيه اللى جابك فى وقتها!، سمعت صوتي وأنا بصرخ يعني ولا إيه اللى حصل!، مش إنت المفروض عندك حصة برضه؟).. إتهرب من الإجابة، وكإنه بيقول مش عارف أو مش مهم.. لأ لحظة.. “إيهاب” كان بيراقبنا بشكل أو بآخر!.. ده مش رأيي لوحدى لكن رأي الكل.. ظروف أسرة “بولا” زمان كانت على القد..
صحيح إحنا ماكنش بيبقي فيه فرق بين أى حد فينا وبين باقي الشلة واللى معايا معاهم والعكس؛ لكن مع واحد حساس زي “بولا” حتى لما كنّا نعزم عليه يعمل نفسه إنه بطنه واجعاه أو يحلف حلفان إحنا عارفين إن سببه الخجل مش السبب اللى بيقوله؛ إنه شبعان، وهكذا.. فى مرة إتهرب “بولا” إنه يقابلنا فى الفسحة بين الحصص.. عادي محدش أخد باله من غيابه، وكنّا فاكرين إنه تأخير طبيعي وهيظهر.. قعدنا ناكل.. كان لسه “إيهاب” ماجاش.. جه.. بص لنا.. سأل: (فين “بولا”؟).. ردينا: (حالاً ييجي تلاقيه بيشرب ولا فى الحمام).. قال: (وليكم نفس تاكلوا قبل ما ييجي؟).. سابنا ومشي!.. كلنا شوحنا بإيدينا اللى هو يا عم روح بقي.. كنّا بنشوف إن “إيهاب” مأفور زيادة عن اللزوم، وعايش فى دور الأب رغم إنه فى إعدادي!.. فى نفس اللحظة كان “بولا” واقف قدام الكانتين بيشتري حاجة فى الفسحة.. مصروفه وقتها كان 25 قرش.. طلب ساندوتشين.. الراجل قال له: 30 قرش.. “بولا” قال: (معلش أنا أتلخبطت خليهم واحد بس يا عم “محروس”).. عم “محروس” المسئول عن الكانتين إتلخم مع طالب تاني وتالت ونسي “بولا” خالص.. بعدها بـ لحظات إنتبه له.. سأله: (قولت عايز إيه؟).. قبل ما “بولا” ينطق كانت إيد “إيهاب” إتمدت من ورا كتف “بولا” بالفلوس لـ عم “محروس”، وقال: (ما هو قالك إتنين يا عم إنت سمعك تقل ولا إيه).. قالها وضحك.. “بولا” إتخض، وحاول يفلفص ويرفض لكن “إيهاب” قال له: (يا عم أنا جعان وعايز آكل وهاكل معاك وعايزين نفتح نفس بعض).. بص لـ عم “محروس”: (خليهم أربعة يا عم “محروس”).. الراجل إتجنن وقال: (إنت إيه حكايتك ياض إنت وهو بالظبط ماتلخومنيش معاكم فى يومكم).. “إيهاب” رد: ( فيه إيه يا عم!، ما أنا بقول لك أربعة من ساعة ما وقفنا!، مش بقول لك سمعك راح).. أخد “بولا” من إيده، وجابه وجالنا، ومعاهم السندوتشات، وقعدوا ياكلوا.. فى نص الكلام ماكنش غريب إنه يشكر “بولا” قدامنا على العزومة اللى صمم يعزمهاله!.. (“بولا” هو اللى جاب لي الساندوتشات دي وعزمني على حاجة ساقعة!، فقريين!، مش لو كنتم جيتم معايا تدوروا عليه كنتم أخدتم من الحب جانب، يدوم العز يا أبو “بولا).. هو ده “إيهاب”.. كبرنا، وكترت معانا مواقف “إيهاب” اللي بيظهر لكل واحد مننا فيها فى الوقت المناسب.. وإحنا فى ثانوي والدة “إيهاب” إتوفت!.. إتوفت فجأة بدون مقدمات، ولا مرض..
سابت “إيهاب” ووالده، وأختين بنتين.. قبل الوفاة كان فيه مشاكل بين “إيهاب” وبين والده عم “أيوب”.. مشاكل، وخناقات زي اللى بتحصل بين أى أب وإبنه فى كل بيت.. يمكن بس عم “أيوب” قاسي شوية عليه!.. مع إن بعد الوفاة حرفياً اللى كان شايل البيت، وعم “أيوب”، والبنات هو “إيهاب”!.. مارضيش يدخل الكلية عشان يشتغل فى محل أبوه!.. كنت بسأله: (يخرب بيتك يا “هوبة” إنت بتلحق إمتي تشتغل، وتخدم أبوك، وتجيب الطلبات، وتقعد معانا، وتصالحنا، وتسمعنا وإحنا بنحكي عن اللى مضايقنا؟).. كان يرد: (يا عم هو أنا إشتكيت لك!، ماتفكرش كتير!، مش أنت مبسوط، وأنا مبسوط!، هو ليه كل حاجة بنكون مبسوطين فيها بنقعد نطلع فيها القطط الفطسانة!).. كلامه كان مقنع، وكإننا مستخسرين فيه إنه قوي وشايل حمول.. (إحنا هنعزل).. قالها “إيهاب” بعد وفاة والدته بشهور وهو زعلان، وكان وقع الكلمة علينا كلنا زي الزلزال.. كمل كلامه: (هنروح نقعد فى بيت عمتي، أبويا مصمم).. كلنا كنّا متضايقين.. رغم إن المشوار مش مسافة يعني، وكلها كام شارع بس برضه كإن حتة مننا رايحة بعيد عننا.. قال لنا: (“فاكرك يا ناسيني” فى نفس الميعاد ها؟).. قصده هنطير الطيارات فى نفس الوقت لإن أغنية “فاكرك يا ناسيني” هي الأغنية اللى بيحب يدندنها دايماً وبالذات فى وقت تطيير الطيارات..
سألته: (يا إبني إنت مش رايح بيت عمتك؟).. رد: (أيوا ما أنا هطيرها من فوق سطوحها!، هو يعني بيتها مافيهوش سطوح!، وهتقدروا تشوفوني من هناك على فكرة).. كان كلامه صح.. طلعنا فوق السطوح كلنا فى نفس الميعاد، وكانت طيارة “إيهاب” طايرة، وظاهرة من فوق بيت عمته.. بعيد آه بس باينة!.. وبرضه طلع الأول!.. فى أولي كلية لما كنت عايز أقول للبنت اللى بحبها إني بحبها مالقتش غير “إيهاب” ألجأ له.. روحت له الساعة 2 الفجر، وإستقبلني بحماس وقعد يخطط ويدبر معايا اللى هنعمله لحد ما نوصل لهدفنا!.. وحققناه، ووصلنا.. النهاردة أنا و”نيفين” متجوزين بقالنا 4 سنين والفضل بعد ربنا لـ “إيهاب”.. لما “عبدالرحمن” قرر يتقدم لـ أخت “محمد”؛ والد “عبدالرحمن” كان رافض.. سبب الرفض إن أسرة “محمد” ميسورة الحال بنسبة كبيرة عنهم، وإنه بالخطوة دي هيبقي بيحرجه معاه.. “عبدالرحمن” صمم.. والده صمم أكتر.. (لو عايز تروح يبقي روح لوحدك).. “عبدالرحمن” وقف الموضوع لحد ما يحصل فى الأمور أمور.. بس النتيجة كانت سلبية.. عرفنا بالصدفة من “محمد” إن فيه عريس هييجي يتقدم لـ أخته الأسبوع الجاي.. طبعاً ده تطور يقلب كل الخطط.. وطبعاً برضه مش هتلحق تغير نظرة والد “عبدالرحمن” فى كام يوم ولا تستعجله!.. بيقرر “إيهاب” يروح يقابل والد “محمد” مع “عبدالرحمن”.. (إيه يا إبني العبط ده!).. رد عليه: (ها! نروحوا ونرموا الكلمتين ويا صابت يا خابت، ولا البت تطير من إيدك؟).. قال له: (نروح، وربنا يستر).. راحوا، وإتكلم “إيهاب” كإنه راجل عنده 50 سنة مش شاب فى العشرينات!.. والد “محمد” إقتنع..
آه حط شروط صعبة شوية، وأولهم إن والد “عبدالرحمن” ييجي وهي دى الأصول طبعاً بس وافق بشكل مبدئي، وطلب طلبات صعبة، وتعجيزية!.. “إيهاب” قال له: (برقبتي، اللى عايزه يا عمو هيكون).. “عبدالرحمن” كان شايف إنها توريطة أو حططان للعقدة فى المنشار من والدها بس “إيهاب” كان شايف العكس إنك مادام شاري وعايز البنت يبقي كله سهل.. كان ممكن الأمور تقف لحد هنا أو حتى تقف فى اللحظة اللى والد “عبدالرحمن” دماغه لانت ووافق بعد كام شهر بس إتصدم من الطلبات اللى إتطلبت وقال لإبنه: (شيل شيلتك).. لكن ظهر “إيهاب” للمرة المليون، وكان وقتها إشتغل؛ إقتطع من مرتبه وعمل جمعية عشان يزق مع “عبدالرحمن” فى ثمن العفش بتاعه، وباقي الطلبات!.. كل ده، ونفس العادة بتاعتنا مستمرة زي ما هي.. تطيير الطيارات وقت المغربية فوق الأسطح بتاعت بيوتنا!.. وبرضه “إيهاب” بيطلع الأول!.. “إيهاب” كان حافظ تواريخ ميلادنا كلنا!.. كلنا كلنا يعني.. فى مرة كنت فى الشغل، وكان يوم عيد ميلادي، و”إيهاب” هيسافر بسبب شغله فى نفس اليوم بالليل ومش هيشوفني، وهيرجع تاني يوم بس هنبقي دخلنا فى يوم تاني جديد..
جالي الشركة اللى بشتغل فيها.. دخل، وفى إيده تورتة عليها صورتي، وبيغني!.. طبعاً المفاجأة خلّتني أخرس!.. بصراحة خلّت كل زمايلي فى الشغل كمان يندهشوا إيه العبط ده.. أصل إنت تعمل كده عادى مع واحدة بتحبها لكن مع واحد صاحبك!.. مش كتير هيفهموا طبيعة العلاقة اللي بينا.. قولت له: (يخرب بيتك أنت فاكر!).. رد، وهو بيغني، وبيحرك إيده اللى شايلة التورتة بحركة مسرحية: (فاكرك يا ناسيني تيرا رااا بُعدك على عيني تيرا رااا).. كتير كنت بفكر مع نفسي البني آدم ده معمول من إيه!.. وإيه الندالة اللى إحنا فيها دي.. كإننا إكتفينا إنه بيعتبرنا زي أولاده وبمحبته لينا وخلاص!.. ليه محدش فينا بيشوفه هو ناقصه إيه أو عامل إيه أو يفكر يبسطه زي ما بيعمل معانا أو حتى يفتكر عيد ميلاده!.. أنا وكلنا عارفين إنه أكيد مش منتظر مننا حاجة بس دي أنانية مننا الحقيقة!.. جمعت “محمد”، “عبدالرحمن”، و”بولا” وإتكلمت معاهم.. (عايزين نعمل حاجة حلوة لـ “إيهاب”).. محدش إعترض، وعملنا كده فعلاً.. كان هو لسه ناقل لشغل جديد كانت دي فرصتنا.. رجع من الشغل ولقانا عاملين له زفة فى الشارع تحت بيتهم!.. زفة زفة بـ فرقة بلدي ومزيكا كإنه واحد خارج من السجن.. كان يوم مبهج، وعظيم، وسر عظمته إنه مقترن بـ واحد عظيم زي “هوبة”.. قعد يعيط فى اليوم ده زي العيال الصغيرة، ومكسوف يبص فى وشوشنا من الإحراج قدام أهل المنطقة بس إحنا أجبرناه يرقص ويهيص..
الناس كانوا فاكرين إنه إتجوز ولا خطب!.. رقص وغُنا فضلوا مستمرين من الساعة 2 الضهر لحد الساعة 5 المغرب!.. فجأة لما جت الساعة 5 إنتبه وساب كل حاجة وقال لنا، وهو بيشاور على فوق: (فاكرك يا ناسيني منك له).. أوف!.. الطيارات!.. سألناه: (وهو ده وقته؟).. رد: (إحنا بينا إتفاق، ولا أنتم مش عايزين تخسروا زي ما متعودين).. قالها، وطلع جري على سطوح البيت، وكل واحد فينا جري على بيته بس طبعاً وبسبب بُعد المسافة من تحت بيت عمته لـ بيوتنا طلع هو برضه الأول.. بس وعشان النهاية لازم تكون بنفس نقاء، وطُهر الإنسان؛ كان لازم يروح.. كمية البشاعة اللى موجودة فى الدنيا ماكانتش هتبقي محتملة لواحد زي “إيهاب” بـ طيبته، ورقته.. تاني اليوم الصبح جالي مكالمة من “محمد” وهو بيعيط.. ماقدرتش أفهم من صوته هو فيه إيه.. تخيلت إن والده إتوفي أو إن فيه مصيبة تانية حصلت.. بصعوبة قدرت أستجمع الكلمتين اللى كانوا محشورين فى زوره!.. “إيهاب” مات.. مات!.. مات إزاي يعني!.. “إيهاب” ماينفعش يموت.. نزلت جري من البيت وأنا حافي ولما وصلت تحت بيت عمته لقيت باقي الشلة، وكلهم واقفين بيلطموا وبيعيطوا.. السبب؟.. مفيش سبب.. نام ماصحيش.. وكإنه أخد حقه من الدنيا بالحفلة اللى إتعملت فى اليوم اللى قبله!.. موته كسرنا كلنا.. عرفنا قيمته بعد ما راح.. كل مقابلاتنا مابقاش ليها طعم من غيره.. “عبدالرحمن” كان عنده مشكلة، وإتقابلنا، وحكالنا عليها..
قعدنا ندرس الموضوع من كل زاوية، ومش لاقيين حل.. “بولا” قال بتلقائية: (“إيهاب” هيجيب التايهة وهيلاقـ….).. أول ما نطق إسمه كلنا إنتبهنا بـ لهفة له.. قطع كلامه كإنه إفتكر، وسكت، وكإننا إفتكرنا وسكتنا.. وقعدنا نعيط كلنا.. “إيهاب” زيه زي ناس كتير موجودة فى حياتنا.. نموذج زي الطيف.. بيعدي الأمور.. مش بيقف على السقطة واللقطة.. إنسان سهل وبسيط وسلس.. أتمني تحطوا الناس اللى زيهم فى عيونكم قبل فوات الأوان، وماتكتفوش باللي بيقدموه ليكم.. الناس دي مش بتتعوض.. إحنا بنروح نزوره فى قبره فى مدافن المنارة فى إسكندرية كل أسبوع مرة، والحمدلله محافظين على العادة دي مهما إتشغلنا أو الأيام ودتنا وجابتنا.. هو يمكن بس موضوع الطيارات اللى وقفناه بعد وفاته سنين عشان محدش فينا بقي ليه نفس.. لغاية ما من أسبوع عملت مكالمة جماعية بباقي الشلة، وقولتلهم سؤال واحد: (فاكرك يا ناسيني منك له؟).. كإنهم كانوا منتظرين السؤال وكلهم وافقوا!.. كل واحد فينا طلع جري فوق سطوح بيته عشان يطير الطيارة بتاعته.. أعتقد إني وصلت أول واحد ولسه بفرد الغزل عشان أطيرها لقيت طيارة خضراء باينة من بعيد!.. من نفس المكان اللى فيه بيت عمة “إيهاب”، ومن فوق سطوحها!.. دي طيارته.. إيدي إتشلت.. بصيت قدام، وشوفت “محمد”، وبصيت شمال وشوفت “بولا”، وشمال بعيد شوية وشوفت “عبدالرحمن”، وكلهم خدوا بالهم أنا باصص فين، وكلهم إتصدموا.. بدون ولا كلمة ولا أى إتفاق ولا إشارة نزلنا جري إحنا الأربعة على بيت “إيهاب”.. طلعنا فوق السطوح بتاع بيت عمته..
“إيهاب” مامتش!، أكيد هنشوفه دلوقتي.. فتحنا باب السطوح ولقينا والده عم “أيوب” ماسك الطيارة زي العيال الصغيرة، وبيطيرها، وبيتنطط.. شافنا ضحك، وشاورلنا على فوق وقال: (حتى وهو مش هنا الأول برضه يا هُبل).. ماحسيناش بنفسنا غير وإحنا بنضحك، وبنعيط وبنحضنه وحالة غريبة محزنة ممتعة فى نفس الوقت.. اللي بيعدى من فوق كوبري الموقف الجديد فى إسكندرية، ويبص للسماء هيشوفنا كل يوم فى نفس الميعاد بنطير الطيارات بتاعتنا، ومعانا عم “أيوب”.. يمكن نقدر نعوض غياب اللى عمره ما هيغيب، واللى دايماً كان فاكرنا مهما نسيناه.
الرد:
أوقات كتير بنتعامل بأنانية مع كرم الطرف اللى قدامنا فى كتلة المشاعر واللُطف اللي بتطلع منه لينا بدون ما نفكر إن من حقه علينا هو كمان يتعامل بالمثل.. لمجرد بس إنه ماطلبش!.. مش بنعرف قيمة الناس غير لما بيمشوا.. ظناً مننا إنهم فاضلين للأبد، وضد الرحيل.. هى جدعنتهم آه هتستمر حتى لو كذكري حلوة بس هما نفسهم هيستمروا فى الحياة؟.. ضامن ده؟.. أكيد لأ.. حسسوا الناس بأهميتهم فى حياتكم، وبادلوهم الجمال اللي بتاخدوه منهم.. الموت بييجي فجأة، ومش داخل فى حساباته ياه دا أنت كنت لسه هكلمه أو كان على بالي أو كنت هزوره.. بنضيع وقتنا على حاجات وناس ماتستاهلش على حساب ناس تانية تستاهل تتوزن بالدهب.. الناس التانية دي يستحقوا يحتلوا منطقة مختلفة فى قلوبنا لإنهم ومهما كنت ناسيهم هيفضلوا فاكرينك.